بقايا صور
ظننّاها ذكريات عفا عنها الزمن لتقادُم عهدها .. عهود من الطفولة الوديعة البريئة قضّيناها بلا رقيب ولا نذير . كنّا في مأمن من غزو وسائل التكنولوجيا الحديثة ومن قبلها ألعاب الفيديو والبلاي ستايشن . عالمنا أو قل عالم من سكنوا الغابة و” الجِنّة ” في عُرْف الصفاقسية مقارنة بمن سكنوا البلاد العربي ( المدينة العتيقة) في رحلة الشتاء والصّيف كان عالما ورديا حقيقة ومجازا استمتعنا به و زرعَنا سرورا وحبورا فغدونا كالحِمْلان في تنطُّطها و كالغزلان في وُثوبها وكالمُجتَرّات إذا سكنت .
جالستُه في مقهى ّ بعد زمن قصير من تعارفنا . جاذبته أطراف الحديث فوجدته مسكونا مثلي بطفولة نجت منها بقايا صور ملتمعة وهّاجة و بات بعضها كالشريط الحساس للضوء يحتاج للتحميض لتخريجها صافية مكتملة الملامح . ورغم عقد من الزمن يفصل بين ولادتيْنا فالتَّذكار وتقاطع اللّحظات الزمنية ذلّل هذا الفارق و شجّع التناغم بيننا . تحدّث بلباقة و براعة مُوَصِّفا بدقّة أحداثا و وقائع َمن زمن مضى . قال : كان جِناننا مثل سائر ( جِنّة ) الصفاقسية مزروعا بمختلف الأشجار المثمرة التي تعتاش عليها العائلة : شجرة الليمون ( ليم قارص) الّذي يفيد غذاء ودواء و أشجار اللوز التي نستفيد منها في تناول اللوز الفريك واللوز المجفف مقليا في كأس من الشاي أو في صنع حلويات اللوز لمن منّ الله عليهم بصابة كبيرة . كما تزدان جنّة صفاقس بالتين الذي يؤكل طازجا وبعضه يسبقه البيثر . و يجفف جزء من التين شرائح لتناولها شتاء مع البسيسة .
و للعنب حضور مكثف منه التونسي والكحلي والعسلي و يجفف بعضه زبيبا على حصير بالٍ أو على أعواد البسباس بعد حصاده و فصل بذوره عن السيقان . وللعنب حظوة في شقان الريق عنى أهالي صفاقس يؤكل مع الزميط كما يؤكل تحلية بعد الغداء أو العشاء . وتمتد القائمة لتشمل التفاح العربي و المشماش والعوينة وشجرة التوت وما أدراك ما التوت وشجرة الخروب دون أن ننسى سلطان الغلة ( الهندي/ التين الشوكي) الذي ينبت في حواجز ترابية ( الطابية) التي تحدّ ملكية الأرض وتترك فيها فتحة ( كعباشة) تسمح بالتنقل بين جنانين في حالة التوافق والرضى . والتين الشوكيّ يُصنَع منه( الرُّبّ) وعنه قيل( آه يا هندي ..دواك عندي ، تطيب ونعملّك جمّاعة) .
ولا تقف خيرات جنان صفاقس على الأشجار المثمرة بل تتعداها الى الخضر التي تهدى ولا تباع عند وفرتها وطلبها استحبابا ( السلق و المعدنوس و التابل و البسباس و البصل و الطماطم و الفلفل واللفت …) .كان جيران الغابة لا يستنكفون من الاقتراض عند الضرورة الملحّة رأس بصل أو بعض الملح أو قليل من الكحول لإشعال الموقد النفطي ( البابور) وهي خدمات متبادلة تبرهن على مقولة (الجار للجار رحمة ) . ولكن ثمة عائلات لا تقبل أن تُقرِض أو تقترض .
هذه الأجواء الماتعة يحسن بعض النسوة استغلالها فيتّخذن من شجرة وارفة الظلال مجلسا في الهواء الطلق وسط الطبيعة الغنّاء . والمشهد مازلت أتمثله ذات يوم حينما قررت أمي و قريبتها أن تنصبا مجلسهما تحت ظلال شجرة عظيمة تفترشان بساطا على التربة وتنهمكان في شغليهما : هذه تطرّز وتلك تخيط وكما يقال ( الحديث والمغزل) فهما تعملان وتتحدثان بثبات ودقّة ونحن نعتلي الشجرة و نختفي بين أغصانها والبنات يجلسن مع النسوة يتعلمن بالمشاهدة وكما يقول المثل( الّي عينيه فيه ، الناس ما تورّيه ) وتُكلَّف إحداهن بمراقبة البرّاد في قرقرته في انتظار أن يطيب الشاي و يصلح للشرب في ( كاس طرابلسي) .
وتتخلل هذه النزهة البسيطة في مظهرها العام والعميقة في آثارها النفسية صحائف من غلال الجنان بلا عدّ و ماء بارد من الماجل في ( درجية) من الفخار . وينتهي المجلس بانحسار الظلّ وارتفاع هرج الصغار وتدافعهم وهما علامة وقت النهاية . ينفضّ المجلس ونفترق متواعدين على لقاء آخر حسب ما تسمح به ظروف الكبار . أما نحن الصغار فنلتقي دونما موعد مسبق لأننا نكون دائما على موعد لا يفرّقنا إلاّ حلول المغرب صيفا و الأمر يختلف في باقي أشهر الدراسة .
غابة صفاقس كانت دنيا نعيشها بعفوية وبساطة وروح كلها أمل . والآن ماذا بقي من جنان صفاقس !؟ غزْو عمراني صاروخيّ جزّأ جِنّة صفاقس وتوجُّه عارم نحو تحويل ما كان مغروسا أشجارا مثمرة إلى محالّ للكراء من أسفل وفوقها عمارة ذات طوابق حسب ما هو مسموح به في مثال التهيئة العمرانية لتلك المنطقة . ماذا بقي لنا من جِنّة صفاقس!؟ لم تبق الا ذكريات متوهجة عند النزر القليل و ذكريات باهتة في أذهان من يُحكى لهم
صفحات من تاريخ غابة صفاقس مرددين : يا حسرة ! كل واحد يعيش وقته .