رجل الستين
حينما أصبحت معلما وأنا ابن إحدى وعشرين سنة ونصف كنت أرى الستين بعيدة وأنا لم أبلغ بعد الثلاثين !
الستون هو عمر التقاعد . هذا أعرفه ولكنه لم يكن يشغل تفكيري . أمامي طريق طويلة وشاقة في مهنة نبيلة اخترتها طوعا وكرها . كنت مشغولا بالعمل لإثبات وجودي بالترسيم في التعليم ثم ببلوغ رتبة معلم تطبيق قبل انبلاج فجر مواصلة الدراسة الجامعية و ظهور رتب جديدة آخرها أستاذ مميز للمدارس الابتدائية وقد نلتها والحمد لله .
كل عقد جديد كان يمثل لي مرحلة لها طابعها و مميزاتها . سن الثلاثين ومعركة الزواج والبناء ( المرمة) . سن الأربعين وأزمة الأربعين وقد عشتها فعلا ، ومرحلة تربية الأبناء و إذا قيمتها الآن أجدني أبا مسؤولا ولكني كنت شديدا أخلط صفة الأب بصفة المعلم في البيت وهذا سبب لي مشاكل مع أسرتي . أما سن الخمسين فهي مرحلة عرفت فيها قارورتي الرج و الغليان . عقد شهدت فيه تحولات كانت تثير استغراب أفراد أسرتي .
راجعت مواقفي وعدلت بعضها اقتناعا لا ضعفا . السنوات الخمس بعد الثلاثين في القسم جعلتني أكثر تعلقا بالقاعة و أكثر تسامحا ولينا مع تلاميذي ونبذت سياسة ” العصا لمن عصى ” وقلت إنها فلسفة إفلاس التربية ! وبقيت ثلاث سنوات عملت خلالها مساعد مدير . صراحة أفادتني في بدني وأعصابي و أغرمت بالعمل الإداري مكرها لا مختارا و اجتهدت في تطوير الإدارة و رقمنة ما وسعني ذلك وظل الحنين جارفا لقاعة القسم !
وتزامنت رحلة التقاعد والستين مع انتشار فيروس كوفيد 19 و لزوم البيت و انفجار الذكريات و إلحاح سؤال خطر : أي دور لي بعد التقاعد والستين !؟