وأطفأت شمعتي الأربعين … كيف عشت فيضانات 1982
في مثل هذا اليوم وفي الليلة الفاصلة بين 30 و 31 أكتوبر من عام 1982 تسبب هطول أمطار فيضانية بلغت 160 مم أن تعيش صفاقس رعبا لم تشهده منذ فيضانات 1969 تداعت لها البنية التحتية المهترئة معلنة كارثة طبيعية ومخبرة عن افتقار المدينة لمجاري تصريف مياه الأمطار وفق تخطيط مدروس ومستدام .
في هذا الظرف التاريخيّ العصيب كنت معلما وقتيا في شهري الأول بسيدي ظاهر أتابع الأخبار من إذاعة صفاقس بقلق يتعاظم يوما بعد يوم صعّده عجزي عن العودة للاطمئنان على أهلي بسبب تعطل حركة المرور بفعل فيضان الوديان وقطع الطريق الموصلة الى صفاقس المنكوبة والمعطوبة .
و في الفترة نفسها أذكر أننا أُمْطِرنا في أحد الأيام ب 18مم ولم نتهدد في أمننا وسلامتنا ما لم نبارح أماكننا و ما لم نفكر في ركوب مخاطر الطريق الفلاحية الطينية إلى بئر علي ومنها إلى صفاقس ! كنت في القاعة التي أعمرُها أتابع من مربعات النوافذ البلورية الغيث النافع و أستشعر فرح الفلاحين بما تخزنه أراضيهم من مياه وقلبي ينفطر أسى على ما يجري في مدينتي ولا حيلة لي في العودة الآمنة وليس لي إلا أمنية طفل يحلم بجناحين يحملانه الى أهله في محنتهم .
حتى إذاعة صفاقس انقطع بثها مدّة و لم تبق غير الإذاعة الوطنية مصدرا أستقي منها الأخبار الموجعة ومنها نداء والي الجهة لسكان المناطق المنخفضة لترك بيوتهم الى أماكن عالية ومرتفعة مثل المدارس والمعاهد والمساجد ومنازل الجيران .
عدت الى صفاقس يوم 6 نوفمبر و هالني ما سمعته من توصيف لما جرى وما عاينته بأمّ عيني من أضرار فادحة أربكتني مثل بقية أهالي صفاقس . انزلاقات أرضية على جانبي الطريق الرئيسية بين الحفارة ومركز بوعصيدة و ظهور حفر عميقة تحتاج لعبوّة شاحنات من الأتربة وبقايا أعمال البناء .
وانصدمت برؤية الدهليزين في دارنا يتحوّلان الى حوضي سباحة كلما أفرغوهما بالمحرك يمتلئان لارتفاع الطبقة المائية الباطنية ( النشع) . تخيلوا أفتح باب الدهليز و أملأ السطل من أول درجة فيه . استمر الوضع شهورا حتى انخفض مستوى المياه الباطنية و انتهت صلاحية الدهليز الداخلي الذي كان مخصصا لحفظ المؤونة الغذائية في الجرار وكذلك عولة زيت الزيتون وحفظ الكتب والأدوات المدرسية لأبي ولنا جميعا . حتى الجنان بقي شهورا مغمورا بالماء بشكل ملحوظ . والحمد لله أكلنا لاحقا ما طاب من (البحيرة) وخاصة الفقوس .
كيف واجهت عائلتي هذا الظرف العصيب حين انقطعت الكهرباء و توقفت المخابز عن العمل ؟ قيل لي إن أمي رحمها الله جعلت تعدّ خبز المبسوط من السميد والجرادق من دقيق الشعير على طاجن الجرادق و تتخذ من بقايا الأخشاب وقودا للنار . حياة كشفية لا بدّ من قبولها لتجاوز الأزمة و حسن التصرف خلالها .
خسرت بسبب امتلاء الدهليز ماءً الكثير مما كنت محتفظا به من كتب الدراسة الابتدائية و الكراسات رغم قلتها . ونجت بقية مكتبتي الصغيرة المتواضعة ( كتب ومجلات و رسائل ومذكرات …) . والخسارة الكبرى كانت تكسّر الماجل وتحوّله الى بئر ماؤها ملح أجاج مصيره الردم و الحرمان من شربة حلوة !
ومن ألطاف الله أن سلم أبي آنذاك من خسوف أرضية الڨاراج بما عليها من حمولة طن من الإسمنت في لمح البصر . ومن براهين قدرة الله انطماس بئرين بعد ارتفاع الطبقة المائية الى أقصاها ثم انحدارها واختفاؤها نهائيا ولم تبق بهما قطرة واحدة فأصبحتا أثرا بعد عين !
ولعلّ المثل القائل مصائب قوم عند قوم فوائد ينطبق على ما شاهده الناس في جريان مياه الأودية حيث جرفت قزادر وقوارير غاز ومواد أخرى يُنتفع بها جابها ربي و أصحاب السعود لَرْياح تحطَّبِلْهِم !
وللحديث بقية مع محاولة فاشلة للعودة الى صفاقس و مشروع حزام بورقيبة .