من بقايا رمضان 2 … صنع الملبّس

تقبل الله صيامكم وقيامكم وأجزل ثوابكم .
من بقايا رمضان 2
صنع الملبّس
نوع آخر من” الحلو” الفاخر الذي ارتبط صنعه بمناسبات الأفراح ( عقد قران ، حفلة عرس ، ختان ، نجاح في مناظرة …) و عيد الفطر ( عيد الصغير) يُصنع على مرحلتين : الأولى كريّات من اللوز والثانية إكساء تلك الكريّات بالكرديانة . و صنع الملبس يحتاج إلى معلّمة تُلفّ يداها في الحرير و قليلات هن اللائي يتقنّ هذه الحرفة بكفاءة عالية . وكانت العائلات تتبادل الخبرات في ما بينها دون أجر سوى دعوة بصحة البدن و رحمة على الوالدين . واليوم أصبحت هذه العملية صناعة بأجر في مستوى فردي أو في إطار شركة صغيرة أو كبيرة تخضع لقواعد السوق .
ما يهمنا هنا هو صنع الملبّس في البيوت لأهل البيت أنفسهم أو تطوّعا لبعض الأهل والأقارب اعتقادا منهن أن من تكتُم صنعة تتقنها لا يبارك لها الله في عملها .
أختي الكبرى رحمها الله وغفر لها وأسكنها فسيح جناته كانت معلمة متعددة المواهب والمهارات ومنها تعلمت كيفية صنع الملبس بمتابعتها في صمت فهذه الأعمال لا تحب العين الزائدة ولا اللغو في الحديث .
دعوني أحدثكم قليلا عن السكر المحور ( المرحي) المعد بطريقة تقليدية . كانت أمي رحمها الله ترحي السكر الأحرش برحى حجرية تقترضها من جدتي لأبي رحمهما الله ومعها جلد ماعز جاف ( نطعة) .تجلس و ترمي في قلب الرحي قليلا من السكر ثم تدير الرحى بعصا قصيرة تلف على خيط مثبت في جانب الجزء العلوي من الرحى فينزل السكر مرحيا دقيقا . وكانت تضع على أنفها لثاما خاصة في رمضان حتى لا تتذوق الغبار المتطاير من دقيق السكر .
العملية صعبة و تتطلب وقتا طويلا في وضعية الجلوس و التحريك المستمر للرحى.
1_ كريات اللوز :
تصنع في مرحلة أولى من مرحي اللوز و دقيق السكر و أصفر البيض .يشكل الخليط كريات متقاربة في الحجم تقريبا باستعمال كف اليدين اليدين ثم ( تفلطح) لتصير شبه مسطحة تصفف في الصينية أو الطبق ثم تنضج في الكوشة في نار باردة حتى لا يصبح لونها غامقا ولا تيبس .
حتى في الكوشة يأمروننا بأن نأتي بحلو الزلوز في آخر النهار عندما تبرد بيت النار .
2_ الكرديانة :
وهي كسوة الملبس و تصنع من السكر المحور ( المرحي) وأبيض البيض و ” الصمغ العربي” و” الكثيرا” وقليل من ماء الورد للحد من ( صنان البيض) و قليل من الصبغة الزرقاء لكسر اللون الأبيض الناصع .توضع هذه المكونات في إناء حجمه ماف لركض الكرديانة ( خفقها) باليد قبل أن يستعان بالركاضة اليدوية ثم الكهربائية .تخفقها المعلمة بكف يدها جاذبة يدها إليها و اليد الأخرى تمسك بالإناء حتى يرتفع الخليط كأنه مختمر ( تبوج) . هذه العملية تختاج إلى صحة بدن و صبر و البعد عن العين الزائدة ويقال قد تؤذي العين الزائذة فيرتخي الخليط مثل (طلية الصابون إذا أضفنا إليها ماء مالحا) .
3_ إكساء الملبس :
عبارة مستعملة في هذه الصنعة ( كسيان الملبس / ماشي نكسيو الملبس) وهذه المرحلة صعبة ودقيقة تحتاج إلى تركيز و أعصاب هادئة. عادة ما تعمل التي تكسو الملبس في غرفة وحدها بعيدا عن الناس بعد تغطية شعرها وهذا إجراء تتخذها أية صانعة للحلو مهما كان نوعه ( إجراء صحي) .
تأخذ المعلمة كرية اللوز و تمسكها بأطراف إبهام و سبابة ووسطى يدها اليسرى ثم تغمس سبابتها اليمنى في خليط الكرديانة و تكسو أولا أسفل الكرية بنقل إصبعها بحركة شبه دائرية لتنزل الكرديانة على ذلك السطح وتغطيه ثم تضعها في الصينية وتباعد قليلا بين الكريات في المرحلة الأولى من الإكساء . ومن الحيل المستعملة للمساعظة على تجفيف الملبس المكسو حديثا وضع مجمرة من الفخار بها فحم مشتعل بلا دخان و تقلب فوق الصينية جفنة ( قصعة) ترتكز على عصا البقلاوة بحيث يوجد فضاء للتهوئة . يعاد في الغد أو بعد زمن أقصر إكساء الجزء العلوي من كعبة الملبس وتعاد تغطيته بالجفنة كما في المرة الأولى .
بعد كسوة الملبس وجفافه تتعهد المعلمة أو من تثق بها من المدربات بإزالة النتوءات الزائدة بسكين بكل دقة و ثبات . ولا يبقى من بعد إلا إلصاق جزء في شكل معين من ورق الذهبية على كعبة الملبس و يأكلها من كتبت له بالشفاء.
وكنا كأطفال نشتهي أن نتذوق من الكرديانة فنفعل بعد الاستئذان أو خلسة بلعقة سريعة دون ترك الأثر . والفرحة الكبرى هي حصولنا على نصف ملبسة أو ملبسة كاملة وكأن طاقة القدر انفتحت لنا !
كنت ظائما أتساءل وأنا طفل لماذا يتشدد آباؤنا معنا إذا تعلق الأمر بحلو الزلوز ؟ يقولون لنا : خليوا حاجة نسترو بيها وجهنا قدام الضيفان !
فكنا نرد إن واتتنا الشجاعة والجرأة : آشبيه ياخي الضيفان خير منا !؟
حلويات رمضان كانت فرحة الصغار قبل الكبار ولم تنقص من طقوس العبادة شيئا : صيام وقيام و صلة رحم و فعل الخيرات و تعاون و مساعدة المحتاج بصحة البدن في صنع الحلو .
أختم فأقول:
يا محلى صغرنا و أفراحو
وبهجة رمضان ونهار العيد
يرحم من ربى وتعنّى
وخلاّو أيامنا كلها عيد
29رمضان 1442

