من بقايا رمضان … صنع البقلاوة
كما أسلفت في مذكرات سابقة إنّ حلو اللوز كان متاحا للميسورين و لمتوسطي الدخل لارتفاع تكلفته و خاصة اللوز و لصعوبة صنعه من جهة أخرى . و أذكر اشتراك عائلتين أو أكثر في صينية بقلاوة.
يقولون هي فرحة للصغار والكبار ولو مرة في العام أو أكثر من عام . للبقلاوة سحر خاص ومذاق متميز . الواحدة منها ( كعبة بقلاوة كما نقول في صفاقس أو برج بقلاوة كما يقال في تونس العاصمة وغيرها ) هي التي كانت تقدم في الأعراس والمناسبات السعيدة ( عمل صينية بقلاوة في طهور أو ولادة أو نجاح في شهادة علمية ….)
لن أطيل في ذكر التفاصيل خشية الملل وسأكتفي بالأهم والأجواء التي ترافق مجلس صنعها . اللوازم التي تعدّ مسبقا هي : الصينية التي تتوفر فيها المواصفات الكاملة و مائدة توضع عليها الصينية و عصا البقلاوة (طويلة و مخروطية الشكل قليلة السُّمْك )تأتي بها المعلمة معها يضاف إلى ذلك غربال و مناديل قماشية وفارينة خاصة بالبقلاوة من نوع جيّد وزيت ( زيتونة أو مخلط) .
أما المراحل فهي : الحصول على عجينة بالفارينة لحلان ورق البقلاوة على المائدة بالعصا _ رفع الورقة المحلولة من قبل أربع نسوة في حركة واحدة متناسقة على ظهر اليد حتى تتسع و ترقّ ثم توضع بدقة في الصينية حتى تملأها كلها ثم تقوم إحداهن بدهن الصينية و الورقة بملعقة من خشب ملفوف حولها قماشة مبللة بالزيت حتى تلتصق بالصينية ثم بالورقة السابقة لها فيما بعد وهكذا حتى استكمال إحدى و عشرين ورقة تقوم بعدّها امرأة بواسطة حبات فول . أما الغربال فيستعمل مقلوبا لتوضع عليه الأوراق المحلولة بالعصا قبل نفضها على اليدينويوضع منديل بين كل ورقتين .
وكم تكون الأجواء طيبة عندما تكون الفارينة جيدة و لا تتقطع الأوراق عند نفضها فذلك علامة على الصنعة و الباع والذراع . بعد المرحلة الأولى ( 21 ورقة) يوضع اللوز المرحي مخلوطا ببعض السكر المرحي / المحوّر و تقوم المكلفة بالتزييت بدهنه بالزيت ثم يعاد العمل نفسه مع إحدى وعشرين ورقة أخرى بنفس الحماس والحذ. والدقة . كانت أجواؤهن لا تخلو من الجدية و المرح و النكت وأحاديث النسوة الخاصة التي تمنع إن كان في تلك الجلسة صغار أو فتيات صغيرات ! ما ذا بقي في تلك الليلة ؟ قص الجوانب حول الصينية بمقص مثل حف ّ الشارب بعد دهن سطحها بالزيت آخر مرة وتترك هكذا حتى صباح الغد حين تأتي المعلمة و تقسّم الصينية إلى قطع متساوية بطريقة احترافية مستعينة بالعصا و سكينة كبيرة حادة. تبدأ من الوسط ترسظ خطوطا متوازية ثم ترسم سطورا مائلة ينتج عنها شكل معين هو شكل البقلاوة ذات الأصل التركي حسب علمي أو ينتج شكل مربع إذا كانت بقلاوة عدلية حشوها من لونين أحمر وأخضر ثظ تغطى بلحاف في انتظار من سيخرجها إلى الكوشة على رأسه باستعمال شكارة خيش فوق الرأس وقد نلت شرف ذلك عندما اشتد عودي أو على رأس رديف سائق دراجة نارية أو في صندوق سيارة في أفضل الأحوال . يدخلها رايس بيت النار الى الفرن (العربي) و تبقى مدة ساعة تقريبا وحينها يجب أن بكون العسل ( تسقى به ) ويسمى ( بونتة) تصنعه امرأة خبيرة وكانت أمّي رحمها الله يُشهد لها بذلك . تصنعه من السكر والماء والليمون ( القارص) يغلي على النار حتى يصبح لونه بنيا يمكن رفعه بالغماقة ( لوش) و نحمله للكوشة في الوقت الذي يحدده لنا رايس بيت النار فهو الذي يسقي الصينية بالعسل ثم يعيدها إلى بيت النار لمدة زمنية أقل من الأولى ثم تحمل الى البيت مع قفة العسل .
المرحلة الأخيرة هي تقليع البقلاوة وترصيفها في حكك شامية فارغة بعد تعهد جوانب كل كعبة بالأصابع وتستبعد القطع الجانبية الناقصة أو التي بها عيب و كذلك الجوانب الصلبة غير المعسلة والتي ليس بها حشو لوز أو بها نزر قليل منه. هذا السقط من الصينية يبدأ به في الأكل والقطع المخبأة في حكة الشامية تقدم للأشخاص الضيوف و لا بأس أن يأكل منها أهل البيت .وإذا كانت الصينية مشتركة تقسم حكك الشامية حسب المنابات المتفق عليها . أما إذا كان العسل يابسا فيكون تقليعها بالعذاب تفتر في قلعها ؤواعد أقوى الرجال !
البقلاوة تغيرت صفتها من بعد فأصبحت تصنع من الفول السوداني ( الكاكوية) لغلاء سعر اللوز و بالنسبة للميسورين أصبحنا نسمع ببقلاوة الفستق و الفواكه الجافة بحبات البوفريوة وللناس في عشقهم للبقلاوة فنون !
و تظل أجواء صنع البقلاوة العائلية أبقى من نكهتها التي سرعان ما تنسى ففيها رائحة العزيزات الراحلات في رحمة الله أو العزيزات الباقيات على قيد الحياة وقد بلغن من الكبر عُتيّا . و الطبق المزيّن بالبقلاوة تحديدا لا يُعلَى عليه إذ هي من الحلوى الفاخرة تكلفة و مذاقا . واليوم أصبحنا نشتريها من مدام فلانة المشهورة أو بتوصية عند امرأة كادحة تسترزق من صنعها .
لا حرمكم الله من البقلاوة في الدنيا ولا في الجنة .!
٢٨ رمضان ١٤٤٢
10 ماي 2021