مُتَدَفّقـــــا كالشــــــلاّل

صعقني جوابُ بائعة بإحدى المكتبات وأنا اسألها عن رواية لأحلام مستغانمي حيث قالت : والله لا أدري ماذا أعجبكم في روايات أحلام مستغانمي !
تسمرت في مكاني، نظرت في وجهها فإذا بابتسامة ماكرة متحديّة في عينيها، كنت أودّ أن أستجلي رأيها أكثر…المعلومات التي عندي انّها الكاتبة العربية الأكثر انتشارًا في العالم العربي اليوم، ويتجاوز مبيعات كتبها المليوني نسخة هكذا صنّفتها مجلّة أمريكية سنة 2006.
قال عنها أحمد بن بلّة رئيس الجزائر سابقًا أنّ أحلام مستغانمي شمس جزائرية أضاءت الأدب العربي.
نَاشِرُها في بيروت دعاها الى غَذاء وسألها :”منذ خمس سنوات لم تُصدٍري عملا روائيّا، هل ثمة شيء يُمكن أن نوفّره لكِ لتكتبي”
من أين لهذه البائعة الماكرة أن ترميَ برأي مخالف بين يديك يُفقدك التّوازن والصّواب ثم ترسل إليك بنظرة ماكرة متحدّية. هل هي غيرة النساء، غيرة من امرأة سرقت اهتمام الرجال ؟
ثُمّ انّ هذه الكاتبة قد تخطّت الخمسين ! أكيد ! عندما أشاهد صورها أراها رشيقة خفيفة، تحمل في عينيها جسارة وقلقا لا يُفسدان جمالها بل يَزِيدَانِه تألُّقًا وأُنوثة، وقد أَرى في عينيها هدوءًا أستريح فيهما من وجَع العواصف اليومية ومن جَحيم التّقلبات السياسيّة والاقتصادية والمالية والكورونية أيضا
عندما أهدت أحلام مستغانمي روايتها “ذاكرة جسد” لنزار قباني كتب ان النّص مجنون ومتوتّر، واقتحامي، ومتوحّش وانساني وشهواني وخارج عن القانون مثلي، الرواية قصيدة مكتوبة على كل البحور، بحر الحبّ، وبحر الجنس وبحر الثّورة الجزائرية…ثم أضاف في الأخير ان الأعمال الابداعية الكبرى لا يكتبها إلا مجانين.
هكذا استخلص نزار قباني ويمكن أن تستخلص أن ذلك من أعمالها الروائية من لُغتها المستفزّة من أفكارها الصاخبة، أنها تُفكّرُ بصوت يصمّ الآذان، أنها تُطلق رصاصات بدون كاتم صوت.
أنا أيضا كنت في الأول غير مقتنع بكتاباتها، أول كتاب لها بدأت قراءته “شهيقا كفراق” قرأت بعض الصفحات ثم تركته ليس فيه ما يوحي بالرواية، كثيرة هي الاستطرادات والذكريات والأقوال المأثورة..فتركته وندمت على اقتناءه.
لم أكن أعلم بأنّ أحلام مستغانمي كالموسيقيين، تقوم بتعديل أوتار ڤيتارتها على صفحات بيضاء، هي تريد أن تختبر مدى انسجامك مع كتاباتها، ومدى استعدادك للتّوغل مع أحداث الروَاية.
لذلك عندما عدتُ الى الرواية وجدتها رواية أخرى هي غير الروايات التي تعودنا عليها، ورغم الاستطرادات والأقوال المأثورة فإنّك تواصل قراءتها باستمتاع وبشغف كبيرين، وقد تتفاجأ في الأخير بأن الرواية أخذت منْحَى جديدًا غير متوقع من غير روايات نجيب محفوظ، وغير روايات الطيب صالح وغير روايات احسان عبد القدوس.
انها روايات أحلام مستغانمي فقط، بأسلوبها الذي تفرّدت به بشطحاتها التي ترهقك، انها لا تتركك تُغمض عينيك، تتمدد على الفراش لترتاح قليلا أو لتأخذ أنفاسك، أسلوب جارف شلاّلٌ يأخذك الى حيث لا تدري، أنت في سفينتها بدون ارادَة، بل بإرادتها، هي الرّبان الذي يحملك الى حيث يشاء وقد يَرميك في آخر الشطآن ذاهلا وقد فقدت بوصلة الاتجاه وفقدت متعة الكلام، ومتعة الحروف، وفقدت أيضا لعبة تَقْليب الصفحات بل ومُتعَة تقليب الصفحات، أحلام مستغانمي روائية لا يهمّها عدد الصفحات التي تكتبها، علم الرياضيات تجهله لا تستهويه فهو يقطع عليها أحلامها، أمّا فن الكتابة وفن الشعر وفنّ الغوص في أعماق نفس الانسان فهي تُتْقِنُه، واللّعب في منطقة التّماس بين الحقيقة والخيال لُعبَتُها المفضّلة.
حياة أو أحلام بطلة روايتها “ذاكرة الجسد” تقول :”الكاتب انسانٌ يعيش على حافّة الحقيقة ولكنّه لا يَحْترفها، انه في الحقيقة يَحترف الحُلْم أي يحترف نوعًا من الكَذِب المهذّب”
عبد الكريم الحشيشة