مدحيّـــــــــــات الرسول ﷺ

احتفلنا منذ أيام بمولد سيّد الخلق محمّد ﷺ الذي وُلد الهدى بمولده فهُتكت سُجوف الظلماء، وشعّت الرّسالة المحمديّة السَّمحه على مشارق الأرض ومغاربها تنشر مبادئ الخير والمحبّة والسلام لتتمّم مكارم الأخلاق وتجعل المؤمن محبًّا للخير لأخيه المؤمن بل ان ذلك شرطٌ من شروط الايمان فقد جاء في الحديث الشريف : “لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه”.
وسأتخيّر لكم عيونًا من الشعر العربي تغنّت بخصال النبي الكريم ﷺ وشمائله. ومداحيات الرّسول كثيرة قديمًا وحديثا وسأبدَأ بالقديم حتى نتمكّن من المقارنة بين هذه المدحيات والمدحيّات العاديّة، والحقيقة أن الفروق ماثلة في المضمون لا في البناء، وذلك باعتبار اختلاف القيم التي بُني عليها الدين الاسلامي عن قيم الجاهليّين وإن ظهَر بعض الاتّفاق في بعض القيَم المطلقة مثل المروءة والكرم وإغاثة الملهوف…
ومن أشهر القصائد في هذا الموضوع لاميّة كعب بن زهير التي أورد منها هذه المقطوعة :
1 – بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ *** مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ
2 – وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا *** إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ…
3- أَمسَت سُعادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُها *** إِلّا العِتاقُ النَجيباتُ المَراسيلُ
4 – وَلَن يُبَلِّغها إِلّا عُذافِرَةٌ *** فيها عَلى الأَينِ إِرقالٌ وَتَبغيلُ
5 – أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني *** وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
6 – مَهلاً هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ القُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ
7 – لا تَأخُذَنّي بِأَقوالِ الوُشاةِ وَلَم *** أُذِنب وَلَو كَثُرَت عَنّي الأَقاويلُ
8 – مازِلتُ أَقتَطِعُ البَيداءَ مُدَّرِعاً *** جُنحَ الظَلامِ وَثَوبُ اللَيلِ مَسبولُ
9 – حَتّى وَضَعتُ يَميني لا أُنازِعُهُ *** في كَفِّ ذي نَقِماتٍ قيلُهُ القيلُ
10 – إِنَّ الرَسولَ لَسَيفٌ يُستَضاءُ بِهِ *** مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ
11 – في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم ***بِبَطنِ مَكَّةَ لَمّا أَسَلَموا زولوا
12 – زَالوا فَمازالَ أَنكاسٌ وَلا كُشُفٌ *** عِندَ اللِقاءِ وَلا ميلٌ مَعازيلُ
13 – شُمُّ العَرانينِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ *** مِن نَسجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ
شرح ما غَمُضَ في المقطوعة
1- بانت : بَعُدَتْ – متبُولُ من التّبْل : الهيام حتى الضعف – مكبول : مقيّد
2- الاّ أغنُّ : صفه للغزال الذي في صوته غنّة
3 – العتاق النجيبات المراسيل : صفات للناقات الكريمة الأصل المسترسلة في السير
4 – غُذَافِرةٌ : ناقة صُلبة قويّة – الارقال والتبغيل : نوعان من السير
5 – أوعدني : هدّدني
9- وضعت يميني : يشير الى المصافحة – قيله القَيلُ : أي قول الرسول ﷺ هو القول الفصل
11- زولوا : هَاجرُوا، يشير الى الهجرة
12- أنكاسٌ : ج نِكس : ضعيف – كشُفٌ ج أكشف : لاتِرْسَ معه – مِيلٌ ج أميلُ : لا يحسن ركوب الخيل – معازيل : ج مِعزَل : لا سلاح لهُ
13- شم العرانين : ذووا أنفة وعزة نفس
وأعود الى بنية القصيدة التي تخبرنا منها هذه الأبيات، فقد كانت مبنيّة على حسب التقاليد العربيّة القديمة في الشعر من ذلك أنها استُهلّت بالنسيب فقد تغنّى كعب بن زهر بسعاد وشكا بُعدَها وعبّر عن علّته من وطأة الغرام ثم ربَط بغرض وصف الناقة التي تبلّغه، الى سعاد في مُقامها البعيد وعرّج وهو يقطع البيداء والفيافي ويلاقي الأهوال على بلوغ مُقام الرسول ﷺ فمدحه ومدح المهاجرين واعتذر له عمّا بلغه عنه من قول لا يليق بمقام الرسول ﷺ. وتقوم بعض المصادر أن كعبًا قد عادى الاسلام ونبيّه أول أمره ثم أسلم بهذه القصيدة ومن سماحة الرسول ﷺ وحسن خُلُقه أن عفا عنه بل استحسن شعره ولم ينكر عليه تغزُّله بسعاد بل إنّه خلع بردته على الشاعر تعبيرا عن الاستحسان. فسمّيت هذه القصيدة البُردة. غير أن القصيدة التي اشتهرت بالبردة ليست هذه بل قصيدة الإمام البوصيري الذي عاش في القرن 7 الهجري
فقد استعار البوصيري حركة خلع البردة على كعب بن زهير ليُوسِمَ بها قصيدته الميميّة التي سُميت كذلك “الكواكب الدرّيّة في مدح خير البريّة” وبعضهم سَمّاها (البُرْأة) لأن الشاعر أصيب بمرض الفالج وأراد من خلالها أن يَبْرَأ من سُقمه وتقول الأساطير إنّ الشاعر قد شُفي من مرضه بعد إكمال البيت الأخير من القصيدة.
استهل البوصيري قصيدته بالنسيب فقال :
أمِنْ تَذَكُّرِ جِيران بِذِي سَلَمٍ *** مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ…
يا لائِمِي في الهَوَى العُذْرِيِّ مَعْذِرَةً *** مِنِّي إليكَ ولو أَنْصَفْتَ لَمْ تَلُمِ…
ثم عبّر في نوع من الاستغفار والاعتراف بالذنوب عن حالته وقد أدركهُ الشيبُ كما قدّمَ مواعظ :
فإنَّ أمَّارَتِي بالسُّوءِ ما اتَّعَظَتْ *** مِنْ جَهْلِهَا بنذيرِ الشِّيْبِ وَالهَرَمِ
مَنْ لِي بِرَدِّ جِماحٍ مِنْ غَوايَتِها *** كما يُرَدُّ جِماحُ الخَيْلِ باللُّجُمِ
والنَّفْسُ كالطِّفْلُ إنْ تُهْمِلُهُ شَبَّ عَلَى *** حُبِّ الرِّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ…
وخالِفِ النُّفْسَ والشَّيْطَانَ واعْصِهِمِا *** وإنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فاتَّهِمِ…
ثم ربط بمدح خير البريّة ﷺ
مُحَمَّدُ سَيِّدَ الكَوْنَيْنِ والثَّقَلَيْن *** والفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عَجَمِ
هُوَ الحَبيبُ الذي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ *** لِكلِّ هَوْلٍ مِنَ الأهوالِ مُقْتَحَمِ
فاقَ النَّبِيِّينَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ** وَلَمْ يُدانُوهُ في عِلْمٍ وَلا كَرَمِ…
فإنَّ فَضْلَ رسولِ الله ليسَ لهُ *** حَدُّ فيُعْرِبَ عنه ناطِقٌ بِفَمِ…
فمبْلَغُ العِلْمِ فيهِ أنهُ بَشَرٌ *** وأنهُ خَيرُ خَلْقِ اللهِ كلِّهِمِ…
مولايَ صلّ وسلم دائماً ابداً *** على حبيبك خير الخلق كُلِّهِمِ…
أنت مصباحُ كلّ فضل فما تصْدُر إلاّ عن ضوءك الأضْوَاءُ
ونظم أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة عارضَ بها بُردة البوصيري وسماها نهج البردة، وقد تغنّت بها كوكب الشرق أم كلثوم :
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ *** أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ
رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَداً *** يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ
يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ *** لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ…
مُحَمَّدٌ صَفوَةُ الباري وَرَحمَتُهُ *** وَبُغيَةُ اللَهِ مِن خَلقٍ وَمِن نَسَمِ
وعارض الشاعر المصري محمود سامي البارودي البردة قبل شوقي فقال :
يا رَائِدَ البَرقِ يَمّمِ دارَةَ العَلَمِ *** وَاحدُ الغَمامَ إِلى حَيٍّ بِذِي سَلَمِ
وقصيدة البارودي بمثابة رواية لسيرة الرسول ﷺ العطرة كما وردت في كتب السير من ذلك مثلا قوله :
فكان أوّل من في الدين تابعهُ *** خديجَةٌ وعليٌّ ثابتُ القَدَمِ…
وتوجد معارضات أخرى للبردة أشهرها لصفي الدين الحلّي :
إن جئتَ سَلْعًا فسَل عن جيرة العَلَم***واقْرَ السلامَ على عُرْبِ بذي سَلَمِ
الشرح :
سَلْعًا : مشقق الجلد من التعب – العَلَم : الجبل
ذو سَلَم : موقع مرّ به الرسول ﷺ في طريقه الى الهجرة
ومعارضات الهمزيّة كثيرةٌ منها همزية أحمد شوقي ومطلعُها :
وُلد الهدى فالكائنات ضياءُ***وفَمُ الزّمان تبسُّمٌ وثناءُ
وقد أحصى العلاّمة يوسف اسماعيل النبهاني ثلاثا وعشرين معارضة لقصيدة (بانت سعاد)
ومن أشهر المدحيات التي لم تعارض كعبًا بن زهير وان كانت على نفس البحر والروى (اللام) القصيدة الشقراطسيّة في مدح خير البرية لعبد الله بن أبي زكرياء الشُقْراطِسي التوزري الذي عاش في القرن الخامس الهجري (توفي سنة 466 هـ) يقول فيها :
الحـــمـــدُ للّه مــنّــا بــاعــثِ الرُّسـُـل *** هــدى بــأحْــمَــدَ مــنّــا أحـمـدِ السُّـبُـل
خــيــر البــريـّـة مــن بـدْوِ ومـن حـضـر *** وأكــرم الخــلق مــن حــافٍ ومــنــتـعِـلِ
ضـــاءت لمـــولده الآفـــاق واتّـــصــلت *** بـشـرى الهـواتـفِ فـي الإشـراق الطَّفَلِ
وصَــرْحُ كــســرى تــداعــى مــن قَــواعده *** فــانـْـقـضَّ مـنْـكـسِـرَ الأرجـاءِ ذا مـيَـلِ
أزكى الخليقة أخلاقا وأطْهرُها *** وأكرمُ الناس صفحًا عن ذوي الزّلَلِ
والقصيدة تتكون من 133 بيتًا تولاها بعض الشيوخ بالشرح والتعليق من بينهم الشيخ السوري عبد الكريم تَتّان (من مواليد 1941 بحمَاة)
وهذه مقطوعة تمثل عنوان البراعة في الصناعة كتبها الشاعر الأندلسي ذو الوزارتين لسان الدين بن الخطيب وهي آية من آيات التصرف البلاغي الفنّي من جناس طريف ومجاز لطيف :
سَلْ مَا لسلمَى بنَارِ الهجْرِ تَكْوِينِي *** وَحُبُّهَا فِي الْحَشَى مِنْ قَبْلِ تَكْوِينِي
وَفِي مُنَاهَا تَمَنَّيتُ الْمُنَى فَغَدا *** قَلْبِي كَئِيباً بِبَلْوَاهُ يُنَاجِينِي…
وامرُرْ على جَزْع واحتزْ حيّ كَاظِمِةٍ ***وَأقْر السَّلاَمَ عَلَى خَيْرِ النَّبِييِنِ
مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارُ مَنْ ظَهَرَتْ *** أنوارُه فَتَسَلَّى كُلُّ مُحْزُونِ
وقد استعار ابن الخطيب معاني الغزل التقليدي ليعبّر عن شوقه لسيّد الخلق ﷺ
ولم يعتبر مؤرّخو الأدب أنّ مدحيّات حسّان بن ثابت شاعر الرسول من المدائح النبويّة على صدقها وقوة سبكها وحجّتهم أنّه كان يقارع خصومه على الطريقة الجاهليّة كما في قصيدته العينيّة :
إِنَّ الذَوائِبَ مِن فِهرٍ وَإِخوَتَهُم *** قَد بَيَّنوا سُنَّةً لِلناسِ تُتَّبَعُ
أَعطَوا نَبِيَّ الهُدى وَالبِرِّ طاعَتَهُم *** فَما وَنى نَصرُهُم عَنهُ وَما نَزَعوا
بينما يظهر الرُّوح الديني في مراثيه وهو يتشوق الى لقاء الرسول ﷺ في الفردوس الأعلى :
وما فقد الماضون مثل محمّد *** ولا مثلُهُ حتّى القيامَة يُفقَدُ
مع المصطفى أرجو بذاك جواره *** وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجْهَدُ
والمدائح النبويّة كثيرة خاصّة تلك التي شطّرت وخمَّسَت بُرودة البوصيري وقد يفاجَأ القارئ الكريم بأنّ الأعشى من ضمن من مدحوا الرسول ﷺ والحال أنّه لم يدخل الاسلام وقيل أنّه لم ينشد القصيدة معلنًا إسلامه لأن قريشًا صدّته عن ذلك وحبّهُ للخمر :
أَلَم تَغتَمِض عَيناكَ لَيلَةَ أَرمَدا *** وَعادَكَ ما عادَ السَليمَ المُسَهَّدا…
أَلا أَيُّهَذا السائِلي أَينَ يَمَّمَت *** فَإِنَّ لَها في أَهلِ يَثرِبَ مَوعِدا…
فَآلَيتُ لا أَرثي لَها مِن كَلالَةٍ *** وَلا مِن حَفىً حَتّى تَزورَ مُحَمَّدا
نَبِيٌّ يَرى ما لا تَرَونَ وَذِكرُهُ *** أَغارَ لَعَمري في البِلادِ وَأَنجَدا
ويذكر جملة من شمائل الرسول ﷺ وما يجب أن يتحلّى به المسلم من شيَمٍ ذاكرًا الثواب والعقاب وحساب اليوم الآخر.
ما أروع أن يدافِع المسلمون عن الرسول ﷺ بذكر خصاله السمحة وأخلاقه العالية لا بالتهديد والوعيد والتقتيل.