ما وراء تصنيف “فيتش رايتنغ”الأخير لتونس: اقتصاد متعثّر والخناق يشتدّ!
في كلّ دول العالم الديمقراطي، تترجمُ مشاريع الموازنات العامّة رؤى الدول وتضع الخطوط العريضة أو ما يعرف بالسياسات العامّة، سياساتُ تترجمُ بدورها إلى استراتيجيات وبرامج تنفيذ، وذلك وفق مقاربة أشمل يطلقُ عليها اسم “الموازنة حسب الأهداف”. هذا ما يحدثُ في كلّ دول العالم الحرّ، باستثناء تونس، هذه التجربة الديمقراطية الرائدة عربيا وإفريقيا، المتعثّرة اقتصاديا. فمنذ مصادقة مجلس نوّاب الشعب على قانون المالية لعام 2021، قبل أشهر، والبلاد تعرفُ أعنف أزمة اقتصاديّة لم يسبق لها أن شهدتها منذ الاستقلال، ما حرّك ألسن الخبراءُ وجعلها تلهجُ بعبارة الإفلاس، لا سيّما بعد قرار الوكالة العالمية للتصنيف الائتماني “فيتش رايتنغ” مراجعة آفاق تونس وتخفيض ترقيمها السيادي من آفاق مستقرّة إلى آفاق سلبيّة. وهذا التصنيف الأخير لا يستحق في الواقع ترجمة فورية، إذ أنّه يعني ببساطة أن تونس أصبحت دولة متعثّرة رسميا وذات مخاطر ائتمانية مرتفعة.
ففي التصنيف الأخير نقرأ مثلاً: ” (…) وتعكس الآفاق السلبيّة تعمّق مخاطر السيولة على مستوى الميزانيّة بسبب تدهور المالية العموميّة تبعا لانعكاسات الجائحة الصحيّة وانتشار فيروس كورونا”.
وتضيف الوكالة : ” سيتعمّق عجز الميزانيّة ليصل إلى 10،5 بالمائة من الناتج الداخلي الخام في 2020 مقابل 3،3 بالمائة في 2019، ويعكس ذلك زيادة نفقات التأجير في ظل الترفيع في الأجور المسندة في اطار اتفاق مع المركزيّة النقابيّة منذ سنة 2019 الى جانب النفقات الاضافية الموجّهة إلى مقاومة انتشار الوباء في ظل تراجع عائدات الميزانية بسبب التباطؤ الاقتصادي غير المسبوق”.
كما يعكس تعمّق العجز، أيضا، تطوّر النفقات الرامية إلى تسديد متخلّدات الدولة تجاه مزوّديها من الخواص ومن المؤسّسات العموميّة والتّي تقدّر قيمتها بـ 8 مليار دينار” .
كما قالت “فيتش رايتنغ” إنّ إبرام اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي سيمكن من “معاضدة مرونة التمويل الخارجي لتونس” لكن أي تأخير إضافي على هذا المستوى من شأنه أن يعرقل خطة التمويل للحكومة في 2021 والتّي تعتمد على قرض خارجي صاف، قياسي، بـ 8 بالمائة من الناتج الداخلي الخام.
تعددت الأسباب
والحقّ أنّ توصيف وكالة “فيتش رايتنغ” لا يكفي لوحده لكي نفهم أسباب تفاقم أزمات البلاد، ذلك أن أسباب تعثّر البلاد كثيرة، ولا يمكنُ تفسيرهُا فحسب باستمرارُ الحكومات في نهج منوال تنمويّ أثبت حدوده وفشله بل وساهم في شتاء 2011 في التعجيل برحيل نظام الرئيس الرّاحل بن علي، ولكن بانهيارات المنظومة السياسية المتتابعة، واستمرار الفرقاء السياسيين في نهج التطاحن الأجوف والعبثيّ على حساب المصلحة العليا للبلاد. وهؤلاء السياسيون تحديدًا لا يوجدُ في جرابهم ما يمكنُ أن يقنع فأر حقولٍ واحدٍ بتصديقهم، فعلى سبيل المثال، لو سألت الرؤساء الثلاثة أو رموز المعارضة البرلمانية الجامحة عن برامجهم وأجنداتهم وحلولهم للخروج من وضع الأزمة الخانق، لما عثرت على ربع إجابة خارج العموميات (مكافحة الفساد، تحسين القدرة الشرائية للمواطن، التنمية الجهوية، دفع الاستثمار، …)، وهي عموميّاتٌ لا رؤى تحرّكها أو سياسات واستراتيجيات وبرامج عمل، بعبارة أخرى، ليس ثمّة ما يمكنُ ترجمتهُ إلى أهداف مرقّمة يكون بوسعنا متابعتها وتحليلها وتقييمها ومن ثمّة تدعيمها أو تغييرها.
في مقابل ذلك، أرقامُ الاقتصاد التونسيّ لا تكذب، والتقارير الدولية وتصنيفات الوكالات الدولية لا تكذب، حتّى إن جولة يتيمة في شوارع البلاد وأسواقها ستكونُ أكثر من كافية لمعاينة حالة الخوف من المستقبل المنعكسة على الوجوه الحائرة والجيوب المثقوبة.
الخوف.. الخوف.. الخوف..
وبينما ينهمكُ ساسة البلاد في تحطيم أعمدة الدولة وحفر أساسات اقتصادها، تقدّمُ الأرقام جردًا عمليّا بما ينتظرُ البلاد قريبا. فتونس تعاني من من عجز قياسي في موازنتها عزّز حاجتها إلى اقتراض ما لا يقل عن 6 مليارات دولار من السوق الدولية لسدّ نزيف الإنفاق العمومي، لكنّ هذه السوق لا تبدو مرحّبة بدولةٍ لم تتقدّم في مسار إصلاح اقتصادها، دولةٍ صنفت كدولة متعثّرة ذات مخاطر عالية، ما يعني بحسبةٍ بسيطة، أنّ لا أحد يرغبُ في تمويل اقتصادٍ غير قادرٍ على الإيفاء بالتزاماته. وحتّى رحلة المسؤولين التونسيين الأخيرة إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، لم تكن إلا محاولة أخيرة، وتكادُ تكون يائسة، لإقناع الصندوق الدولي بضرورة منح تونس فرصة أخيرة، ولا شيء في جرابه سوى وثيقة وقعتها الحكومة مع المنظمة الشغيلة، هي وثيقة إصلاح المؤسسات العمومية (هكذا).
في الواقع، لا نجد غضاضة في تذكير القارئ بأنّ الشيطان يسكنُ غالبًا في تفاصيل تتفادى حكومتنا الموقّرة إخبارنا بها. كأن تخبرنا مثلاً أن الحصول على قرضٍ دوليّ جديد سيفاقم من أزمة مديونية البلاد، طالما أن ما نقترضه يصرفُ أساسا لتمويل الانفاق العام وسداد أقساط الديون القديمة، والمعلوم أن تونس مطالبة هذا العام بسداد ديون بقيمة 16.3 مليار دينار ، تشير كلّ الدلائل إلى أنها ستعجزُ حتما عن سداد الجزء الأعظم منها.
أضف ذلك، ما تزالُ البلاد تعاني من مخلفات جائحة كورونا، وهو ما خلّف عجزاً مالياً بلغت نسبته 11.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، ما حدا بصندوق النقد الدولي إلى التأكيد في واحدة من نشرياته على أن المديونيّة ستكون هاجس تونس الوحيد، لاسيما أنّها ستبلغُ مستويات قياسية. في سنة 2020 تتزايد الطلب على الاقتراض إلى 9 مليار دينار (أضيفت إلى بقية ديون تونس)، وإلى 6.1 مليار دينار إضافية في 2021، ثم 4.7 مليار دينار في 2022، ما سيرفعُ الدين العام إلى 88.2 بالمائة من الناتج الداخلي الخامّ لدولة كلّ محرّكاتها إنتاجها معطلة. وفي الواقع، لا يحتاجُ الأمرُ إلى كبير ذكاء لنعرف أنّ المديونية باتت تستخدمُ في سداد الديون القديمة وسداد الأجور وتغطية الواردات، بمعنى أنّها مديونيّة غير منتجة وذات عواقب خطيرة.
بالمقابل، ارتفعت نسبة الفقر في تونس إلى 21 بالمائة وكادت البطالة تحطم حاجز الـ 18 بالمائة، مع تراجع واضحٍ في كل المؤشرات الاقتصادية بسبب استمرار إجراءات الغلق وتحديد الحركة التي فرضها مسار مكافحة الفيروس في تونس. على أنّ ما يخيفنا حقيقةً ما هو تباطؤ محرّكات الاقتصاد التونسي كالاستثمار (10.3 بالمائة من الناتج الداخلي الخام) او الإدخار (2 بالمائة من الناتج الداخلي الخام)، وهي من أضعف المعدلات في كامل المنطقة، علاوةً على الاستهلاك، وهو ما يحوّلُ الدين العامّ إلى رافعة للنمّو وهنا موضعُ الخطر.
فرملة التداين والبحث عن حلول أخرى
لقد سبق أن تعرّضنا إلى مزالق عدم فرملة الديون وخطورتها الأكيدة لا على حاضر البلاد فقط وإنما على مستقبل أجيالها. ولعلّ السؤال الأهمّ الذي يؤرقنا كمتابعين للشأنين الاقتصادي والسياسي، هو حالة العطالةُ الفكريّة التي يعاني منها العقل السياسي في تونس، عطالة كسولة تنحو نحو تكرار الوصفات نفسها وتنتظرُ نتائج مغايرة. اليوم لا مندوحة أمام السياسيين سوى الخروج من حالة الشلل السياسي، والتوافق على خوارزمية حكم جديدة قادرة على تغيير “براديغماتها” بمائة وثمانين درجة فلا مشاريع قوانين المالية بشكلها الحالي وفرضياتها القديمة (سعر الصرف، سعر برميل النفط) تصلح، ولا المنوال التنموي الحالي يصلحُ ولا التهافت على إنهاء الخصوم سيدفع بالعجلة إلى الدوران. وفي تقديرنا، مخرج تونس الوحيد، لا يكمنُ في توسّل الأموال من البنوك والصناديق الدولية وانتظار هبات الدول المانحة، لأن التاريخ علمنا أنّ القطط السمينة تصطادُ فقط لتأكل، بل في توافق الخصوم على الحدّ الأدنى، أي على فلسفة سياسية جديدة ممثلة في قيادة اقتصادية خالصة تعكفُ على تطهير محفظة الدولة، كإصلاح المؤسسات العموميّة المفلسة أو خوصصتها، والقيام بإصلاح جبائي جذريّ ينهي حالة الظلم الجبائي، وتعزيز ترسانتها لملاحقة رؤوس التهرّب الضريبي وخصوصا ملاحقة حيتان الاقتصاد الموازي لكي تتمكن من دمج جزء منه على الأقل داخل الاقتصاد الحقيقي، وكبح جماح التوريد العشوائي، ومراجعة تشريعاتها في اتجاه تحسين مناخ الاستثمار، بمعنى آخر ، نريدُ قيادة اقتصادية صارمة لا تخضع إلى “العائلات” التي تتحكمُ في اقتصاد البلاد مرسخة المظلمة “الريعية”، وتبادر إلى فقأ دمّلة الاقتصاد التونسي مرّة واحدة وإلى الأبد لكي تتمكن من تطهير الجرح.
هذه هي الأولويات الحقيقية التي ينتظر التونسيون من ساستهم أن يعلنوا عنها دون خوفٍ أو ارتهانٍ إلى مجموعات ضغط تعرفُ أن حماية مصالحها تكمنُ في ترك الوضع كما هو لأنّها تستفيدُ أساسًا من وضع الفوضى، وأن يأسسوا عليها مشروع الإصلاح الاقتصادي، مشروع خاضع لرؤية محددة وبأهداف محددة. خارج هذا المنطق، سيكونُ حصاد البلاد النهائي هرولة صريحة نحو الإفلاس والوصاية الدولية!