ما أقول اليوم إلاّ ما كنت قلتُه سلفاً
نعود- كما تواعدنا- لقانون العزل السياسي الذي أسقطه سابقا المجلس التأسيسي فنشير إلى أن الأمر كان في الواقع محسوما في وجدان الفرد المواطن النابض قلبه بالوطنية، فالعزل في المطلق إجراء مشروع في التعاطي السياسي عقب كل الثورات بل إن عدم إقراره يمثل خيبة أمل، ولكن الخلاف كان يتعلق بكيفية تناول القضية في شكلها ثم في مضمونها: فهل يكون العزل وفق الصورة التي أعقبت سقوط صدام فيما عرف باجتثاث البعث وهو الأسلوب الذي ما زالت آثاره تخرب العراق خرابا لا أمل معه في توديع الفوضى؟ أم يكون بأسلوب المحاسبة القضائية التي لا تتسامح مع المفسدين مهما علا شأنهم؟
..أما وأنه لم تكن للقضية أولوية في اهتمامات السلطة الشرعية فإنه لم يعد التفكير فيها نابعا من كونها إجراء يقتضيه التحول الثوري وإنما أصبح ينظر إليها باعتبارها موضوع استقطاب حزبي يوجه الصراع بين المتنافسين وبذلك فقدت صفة الحق المشروع لتنقلب إلى لعبة سياسية لطالما استغلها الإعلام لتنشيط رقصته السياسية..لا يمكن تجريم الإعلام بشكل عام فهو يبحث باجتهاد عن مقومات الحياد في تأدية رسالته، ولكننا نفاجأ أحيانا بتناول غير شريف لا يمت للنزاهة بصلة، فهل تكون جرعة الحرية الشعبية قد استهوت أسرة الإعلام فتنكرت للحياد؟ قد يكون.
وضاع الكل في الكل وفقدت ثورتنا خاصية يمكن أن تضيف لها صورا أخرى من التميز، تراجع إشعاعها وبدا منها ما كان غريبا وما كان مقرفا، وإنه ليحز في النفس أن تهتم الفضائيات بنقل غرائب مجلسنا بعد أن كانت تتسابق في تعداد مفاخر ثورتنا..يحز في النفس أن تكون صورة البلاد قد تغيرت: ساسة يحكمون ومعارضون يلهثون وشعب تائه انحصر طموحه في رغيف وستر وأمان.
في ظل هذا المشهد تثار مناورة قانون العزل التي تصدى لها الغنوشي، إن تدخله لم يكن اعتباطيا فالرجل لا يسمح لنفسه بالمشاركة في حركة بيضاء، ثم إننا نلاحظ أن نداء تونس وهو المحمول صدقا أو كذبا على أنه بؤرة المعنيين بالعزل ــ أبدى لامبالاة غريبة وكأنه محروز من الشرور. و ترسب في الاعتقاد أن من وثقوا في حتمية مرور قانون العزل هم من كانت تنقصهم الحنكة السياسية ولذلك اهتزوا بعد التصويت وغلبهم الانفعال..ولقد اهتممنا لحالهم في ورقة سابقة سعيا لتفتيت صدمتهم النفسية بطرح الأقنعة طرحا يسهم في عودة الوعي الصحيح، ذلك انه لم تكن هناك معجزة وإنما غاية ما في الأمر أن النهضويين من صوت منهم ضد القرار ومن احتفظ بصوته ومن غاب عن التصويت يمثلون أغلبية يفوق عددها الأصوات المنتسبة للتجمع والمعنية بالاقتراع.
سقوط القرار كان محطة جديدة في مسيرة الثورة، محطة برهنت على عدم جدوى الالتفات إلى الخلف وضرورة التركيز على “الأجنحة”، هناك معركة انتهت، فيم أن معركة أخرى بدأت، إنها معركة التنافس بين مكونات القافلة التي انطلقت سويا بعد الثورة، معركة تعلم النهضة أبعادها لأنها جربت التحالف مع منافسين من الحجم المتواضع فأرهقوها ولم تنجح معهم ولربما وجدت من العنت معهم ما لم تجده مع المنافس ولذلك فإنها تاقت إلى تحالف مع طرف من الحجم الثقيل تتبادل معه الأخذ والعطاء. وأما من حيث الملابسات فالنهضة اقتنعت بأن تجربة الحكم كلفتها حماقات لا تنسى ولذلك فإنها تفضل أن تتحالف مستقبلا مع من يحمل عنها بعض تبعات تلك الحماقات بحكم رصيده الزاخر. ولقد علمت النهضة أن ممارسة السلطة من غير هامش واسع من التمثيلية أو بهامش مشتت يحملها على الاستسلام للخيار التوافقي، ولما كانت الأحزاب كثيرة وهامش مراكز المسؤولية محدودا فإنه لا غنى عن اللجوء إلى الإقصاء والإكتفاء بالحليف القوي، ترى هل قرأ الغنوشي حساب كل شيء أم كانت حركته بإلهام من السماء حتى يقي نفسه من مصير “أزرق” كما حصل لإخوان مصر.
وبلا تمطيط في التحليل نذكر بأن الغنوشي واجه أتباعه بصراحة لم تكن مألوفة في النهضة فاخبرهم ـ بكلمات لا تقال عادة إلا في الزوايا ـ عن تداعيات المصادقة على قانون العزل: فذكر المحكمة الإدارية وحذر من الثورة المضادة، وانذرهم من أن العناد قد يكلف صاحبه العودة إلى السجن.
ومن غير عقد نشير إلى أن النهضة ليست ذيلا لخيار سياسي مرجعي وإنما هي طرف هام في التنافس السياسي، هي حزب أهل للمقارعة لأنه قوي والقوي لا يتصدق بالتنازلات وإنما يتصدق من الفائدة، من هامش الربح في المقارعات السياسية، النهضة حزب بلغ درجة تجعله لا يلعب إلا الورقة الرابحة، حزب لا يغامر أساسا بالخسارة وإن يكن مفهوم الربح لدى بعض المجتهدين فيه ـ ممن يولدون مواقف ارتجالية تحسب على الحزب ــ مفهومهم للربح مخالف لمفهوم الربح كما يراه غالبية المهتمين بالشأن القيادي ولعل هذا هو ما يبعثر أحيانا أوراق التنظيم بحيث يفقد أتباعه مهارة السباحة في بحر السياسة.