علم الحاضر والمستقبل
إن حاجة الإنسان الماسّة إلى معرفة محيطه تفوق بكثير الإمكانيات المتاحة خصوصا أمام تنامي التحدّيات المعرفية بالتوالد والتفرّع .صحيح أن تطوّر مفاتيح المعرفة كان في مجمله تصاعديا عبر التاريخ إن لخَصنا مسار العلوم
ولكن اللامعلوم يتّخذ أيضا نسقا تصاعديا .
أمام تلك المعادلة الأزلية العرجاء،كان ولا يزال الإنسان يفسّر الظواهر الطبيعية
والفيزيائية عند غياب العلم بالماورائيات والخلط بين النتائج والأسباب والإستنتاجات التي يصبح بها الواقع واقعيا والملحوظ من البديهيات والمسلّمات
التي لا تحتاج إلى تفسير .
على ذلك النحو مثلا كان على “نيوتن” بالإضافة إلى ما توصّل إليه علماء الفلك قبله ،كان عليه أن يتفكّر في مسألة سقوط الأشياء واستنتاج قانون الجاذبية متخطيا بداهة”السقوط “من” الأعلى”إلى “الأسفل ” .
وكما تقول القاعدة :الطبيعة تأبى الفراغ ؛ الإنسان شديد الرغبة في اكتشاف محيطه خوفا وطمعا محاولا التطبيع وتطويعه لسدّ حاجاته فيجنح إلى سدّ الفراغات بتفاسير بعيدة عن العلم وعن المنطق الصحيح . المشكل هنا أن طمس تلك الفراغات يجعلها بعيدة عن التناول والتساؤل،محجوبة عن حب الإطلاع . فكم يكون الإنسان حكيما عندما يتواضع ويقرّ بعجزه عن فهم وتفسير مسألة ما، على الأقل تبقى الإشكالية مطروحة ومشاعة تحت الأنظار والأفكار.
هذا فيما يخص العلوم الطبيعية والفيزيائية، أما في مواضيع الدين وهو ميدان
فكر يعتمد فيه على بعض المعارف والعلوم الإنسانية، فالمسألة لا تختلف كثيرا
ولو أن الإشكالات أعمق وأخطر لأنه ميدان فكري شاسع يخص تقريبا كل الناس ولأنه أمر تحتلّ فيه القناعات والعقيدة حيّزا هامّا وتحيل في كثير من الأحيان على الإصطفاف والتقديس والتعصّب .والمهتمّون بالمسائل الدينية يجدون أنفسهم مدفوعين للخروج بحلول وآراء وفتاوى تخصّ مجمل الإشكالات وهو أمر يتعدّى إمكاناتهم أحيانا ولكنهم بطبيعة الحال مدفوعون لملء الفراغات
ولعل من أشهر الخواتم عندهم بعد إبداء الرأي قول “والله أعلم “وهي مقولة نقدرها فيهم إن قيلت عن إدراك وقناعة حقيقية لا بطريقة آلية أوبغرور التواضع وقناع القناعة.
وفي الواقع أخطاء الفهم والتفسير يمكن أن تحسب لفائدة أصحابها من باب : من اجتهد و لم يصب فله أجر واحد . ولكن المشكل العويص هي الأخطاء المركّبة الأ صولية ،أي الأخطاء التي تشمل آليات التحليل والتفسير ذاتها كاعتماد ما يسمّونه أسباب النزول وخصوصا دسيسة الناسخ والمنسوخ وكذلك الإرتكاز على بعض الأحاديث دون الإحتكام إلى القرآن الكريم . كل هذه الأخطاء لا تمسّ بعض اللبنات فحسب بل يمكن أن تتعداها إلى الأسس .
والمشكل الحقيقي ليس فقط في وجود فراغات مطموسة بتفاسير مجانبة للصواب ،بل هو ذلك التمنّع الذي يحاول تجميد الأوضاع الفكرية .هذا، وعلينا الإعتراف بأن بعض أشباه المثقّفين الذين يصرّون على حشر أنفسهم من فراغ في بعض المواضيع الجدّية يساهمون في إزكاء تمنّع المحافظين ومقاومتهم لكل جديد ومحاربتهم لكل مختلف .
وغير بعيد عن كل ذلك وفي مسار شبه مواز،يحاول الإنسان جاهدا السيطرة على الأحداث والتحكّم في مصيره؛والمسألة ذات أهمّية قصوى لأنها تتعدى مجرّد إشباع حب الإطلاع وتفادي المخاطر والإستفادة من المحيط ،الأمر يمسّه بصفة مباشرة في حياته الخاصّة وفي ذاته لحظة بلحظة .
والإنسان في مسايرته للأحداث يتفاعل في ثلاث أطر زمنية :
ـ الماضي ،وهي الأحداث التي وقعت وتمّت فيتفاعل الإنسان معها على أساس اكتساب التجارب ولو أنه كما هو معلوم حياة الإنسان قصيرة ولا تكفي تجاربنا الخاصّة بل علينا الإستفادة من تجارب الآخرين .
ـ الحاضر،وهو التفاعل الحيني التطبيقي وهو الفعل وردّ الفعل والإرتجال المفروض وهو دون الغوص في مجال التنمية البشرية مرتبط بالماضي والمستقبل بصفة مزدوجة .
ـ المستقبل ،وهو الأكثر إثارة والأكثر مدعاة للجدل وإسالة لحبر المفكرين والشعراء والدعاة ولعاب المشعوذين والمحتالين .وهو الغيب الزمني وميدان الماورائيات،والفرس التي لا يمكن ترويضها ،وهو تخفّي الأحداث وراء الزمن المقبل .
عمليا ،لا يملك الإنسان إلا حيّزا محدودا لتسيير الأحداث وفق مراده وأمام هذا العجز المحتوم يحاول عبثا التطلّع إلى المستقبل ،فيطغى الوهم والخيال والتبرّك والتطيّر ويكون عرضة للأكاذيب والشعوذة والإحتيال بزعم معرفة الغيب في أشكال منوعة كقراءة الكف وقراءة الفنجان والورق وخصوصا مسألة التنجيم إذ تنطلق الخدعة بإطلاق اسم الفلكيين على المنجمين فينتحل المشعوذ صفة عالم الفلك وما أبعد هذا عن ذاك . ولأن كلمة ” الغيب “تفرز مناعة دينية موسّعة ،يعترف الكثير من المشعوذين أنهم لا يعلمون الغيب ولكنهم من جهة أخرى في إطار المراوغة يدعون ضمان سير الأحداث وفق مشيئتهم .
وهكذا هو الإنسان بعجزه وخوفه من المجهول يكون فريسة سهلة لتخيّلاته الذاتية الخادعة وخداع من يريد استغلال ضعفه ،وهو نوع من الهروب والسلبية وإن التمسنا له الأعذار وظروف التخفيف نقول إنّها محاولة منه لتخفيف الضغوط النفسية التي تكاد تسبّب له العجز والشلل التامين .
وفي حقيقة الأمر ملء الفراغ بوهم الإطلاع على الغيب يفوّت على الإنسان فرص ركوب مستقبله بحيّز أكبر من التحكّم ومجال أوسع من المناورة ،فالعزم والاجتهاد والتفرّغ يوفّر ظروفا مواتية للأفضل .
ويبقى المستقبل متمنّعا بنسبة هامّة ويبقى المجهول المحفّز والمحرّك الأبدي للحياة .ويجدر بالإنسان الذهاب إلى المستقبل من مسلك التخطيط والتحضير له لا إحضاره .
في مجال العلم يمكن للإنسان اعتمادا على ملاحظات وقواعد علمية أن يتوقّع بعض الأحداث المحدودة والمعزولة في ميدان الفيزياء والكيمياء وحالة الطقس
وغيرها ويمكن أن يتوسّع أكثر ويطور أكثر تلك الإمكانيات ولكنها تبقى دائما نزرا يسيرا أتاحه له خالقه . ومعرفة كل الأحداث المستقبلية أو علم الغيب (الزماني) هو من علم الله خالق كل شيء خالق هذا الكون اللامتناهي في الكبر والصغر بكل تفصيلاته وخالق النظم العلمية المسيّرة لكل أبعاد هذا الكون بكل تعقيداتها ،فيمكنه معرفة كل الأحداث قبل وقوعها وبأدق أدق تفاصيلها ،هذا
ويمكنه سبحانه أن يغيّر ما شاء في مسارات الأحداث ثم أنه سبحانه وتعالى فوق المكان وفوق الزمان فيمكنه “رؤية ” المستقبل ك”رؤية” الحاضر والإيمان المبدئي بالله العليم الحكيم يفضي آليا إلى الإيمان بأنه سبحانه له سبق العلم بكل ما يحدث .
انطلاقا من هذه الحقيقة، في حديثنا عن الغيب الزماني أو كما يعبّر عنه بالقدر،
واعتبارا لبعض الاختلافات الطفيفة في الرأي ،سوف نركّز على فكرة الرضا بالقدر خيره وشره . إن الرضا يمثل حلا مناسبا وثمينا لدعم الإنسان في مسيرته الحياتية المليئة بالمحن والحواجز ولكن شريطة عدم الوقوع في الفخ :
الحديث عن القدر لا ينبغي أن يكون إلا بخصوص الأحداث المنقضية التي وقعت
وأصبحت من الماضي ؛ حينها ،يفتح باب حكمة الصبر والشكر وجبر الضرر
وباب استخلاص العبر وحكمة “وعسى أن تكرهو شيئا وهو خير لكم “.
أما النظر إلى المستقبل من باب القدر ففيه إمكانية المغالطة وخطأ التموقع .
بالفعل، علم الله المطلق واطلاعه على المستقبل لا ينبغي أن يقودنا إلى فكرة القيد . فكونه سبحانه مطلع على المستقبل لا تأثير لذلك على حيز الحرية ومجال السعي والمبادرة والإختيار وهي أفعال تندرج كلها ضمن المقدر. (أي علم الله)
هنا يكمن خيط رفيع فاصل ، الغيب معلوم من الله مجهول بالنسبة لنا ولكنه في كل الأحوال ليس قيدا ولو التزمنا من موقع الحاضر وصفتنا كبشر،لصح لنا اعتبار أن لا حتميّة بل هو المجهول …
عند محاولة تحليل الفكرة بإمعان تلوح شبهة استبلاه الآخرين والحقيقة أن المسألة ليست فكرية ولكن المشكل هو استيعاب الأمور وتقبّلها من الزاوية الصحيحة ومن المنظور المناسب . فحتى أولئك الذين يفهمون أن الغيب ليس قيدا ،عند التطبيق والتعامل مع الواقع ،تطفو على السطح دائما أجواء السلبية والإستكانة والتواكل والمطلوب هو بالطبع ما يعرف بالتوكّل وهو بذل كل الجهود والإمكانات دون ذرّة تردّد أوتقصير مع التسليم لمشيئة الله .
إن بين التوكّل والتواكل خطّا وحيدا ألفـــ – ناه لكنه حاسم قاطع يفصل بين شعوب حيّة تعمل وتنتج وتتطوّر وأخرى محنّطة غارقة في أوحال الجهل والسلبية.