عائد من المغرب : أيها التونسيون ….علينا أن ننقذ بلادنا !
في المغرب قضيت مؤخرا بين احضانها أياما ثمانية…. ولا احلى ولا اروع…. كنت فيها ضمن فريق أوفدته إلى ربوع تلك البلاد ودادية إطارات المؤسسة العمومية التي انتسب إليها للاطلاع والسياحة. هناك كانت الحافلة تطوي بنا المسافات طَيًّا من اجل انجاز كامل برنامج الرحلة المعد سلفا واحترام مواقيته.
كان منطلق البرنامج زيارة العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء ثم التحول إلى شقيقتها الادارية الرباط ومن هناك إلى العاصمة التاريخية والروحية فاس لتستمر الجولة إلى كل من مكناس واحدة من المدن الإمبراطورية الأربع وشفشاون الامازيغية وتطوان الأندلسية وآخر حبة العنقود كانت طنجة عروس البحرين: المتوسط والأطلسي.
الرحلة كانت اكثر من ممتعة، اقترن فيها الاطلاع على تاريخ البلاد، معمارها والبعض من معالمها مع الترفيه والترويح عن النفس. وقد زاد في رونقها ذلك الترحاب والحفاوة الخاصتين التي حظينا بهما من قبل المغاربة وتلك المحبة الصافية التي أظهروها تجاه التونسيين، إذ لم يكن يتوانى “المروكي” عن مفاجئتك بكلمات من اللهجة التونسية الخالصة مثل “برشة”…”إعيشك” …” يا مدلل “…وغيرها عند التعرف إليك او لما يكتشف أنك تونسي. كان وقعها جميلا في نفوس اعضاء الفريق، وكنا نطرب عند سماعها فكانها موسيقى تونسية يترنم بها مغربي.
حول الزيارة لا اذيعكم سرا إن قلت انني لم أكن أنوي الكتابة عنها في الأول فهي خُصُوصِيةّ وشَخْصِيةّ لولا ان بعض ما شاهدت وعاينت هناك فرض علي في الحين إجراء مقارنات بينه وبين جانب من احوال بلدي الخضراء تونس. بسرعة ومنذ اليوم الاول انغرست في ذهني نبتة الكتابة، فاندفعت انقر كما أتفق على لوحة مفاتيح هاتفي المحمول البعض من مظاهر الحياة اليومية لتلك البلاد أسجلها وارسم ملامحها وبالتوازي كانت تهجم على مخيلتي صورا من بعض المظاهر السلبية في بلادي جعلتني اتحسر عليها وعلى واقعها وفي الآن نفسه كنت أَغْبِطُ المغرب بما أنجز.
فتلك البلاد وإن لا تتميز عن بلدي في شيء من ناحية الإرث الحضاري والثقافي أو المعالم التاريخية أو من ناحية المناظر الطبيعية الأخاذة، إلا أنها نجحت فيما نحن بصدد التعثر فيه أو الاخفاق في حله خاصة من ناحية المظهر العام للمدينة وظروف العيش اليومي للمواطن.
ففي المغرب وبمختلف المدن التي زرت لم ار اكتساح البلاستيك لفضائها العام كما يكتسحنا او تكدس للقمامة في الانهج بمثل ما تعاني منه صفاقس إذ من الواضح أنه انتصر عليهما وقهرهما واضحى المتساكن هناك يعيش عموما في بيئة سليمة زادها رونقا المساحات الخضراء الممتدة على جوانب الطريق وفي الساحات العامة.
فما يثير الاهتمام في المغرب ما عاينته من انتشار لجيش جرار من عمال البستنة في كل بقعة وكل مكان من الأرض جنوده منكبون طوال اليوم على العناية بالإخضرار وتعهده. إنهم يُخضِّرون الأرض تخضيرًا كما علقت واحدة من مرافقينا.
ولا تسأل عن الشوارع ونظامها وبالأخص الرئيسي منها الذي يحمل غالبا إسم محمد الخامس. فهو في فاس مثلا فسيح وواسع وبالمثل الرصيف، تزينه على جانبيه اشجارا باسقة وقلما يعرف اكتضاضا او اختناقا أو تسمع فيه اصوات المنبهات. أما وسطه فهو قبلة للمتجولين وموطنا للجالسين لسحر فضاءه وروعته، الذي يتناغم فيه صفاء الماء مع اللون الأخضر.
اما في طنجة الرائعة فتغلبت الارادة هناك على مشكل إيواء السيارات وارقه وتحررت الشوارع منها إذ تم بعث مرأب ارضي ضخم على طول الكورنيش الممتد لمسافة طويلة.
وما هو ضخم وعملاق بدات اليد المغربية تنجزه في وطن إدريس الأول فقد تعززت منظومة النقل الحديدي ومحطاتها البديعة بالقطار السريع (TGV) الرابط بين الدار البيضاء وطنجة. وبعد أن اتم المغاربة بناء جامع ضخم بإسم الحسن الثاني بالدار البيضاء تحدوا به المحيط الأطلسي وصيروه مزارا للسياح، شرعوا في إنجاز برجا عملاقا يحمل نفس الإسم بمدينة الرباط. هناك وراء كل ما أنجز عقل حالم وذوق رفيع وخاصة روح تنم عن محبة للبلاد وتطلع لإسعاد المتساكن.
وهنا في مدينة صفاقس الجديدة – مثلا -نعاني من نتائج التدبير السيء والشغف بالربح السهل ما جعل ذلك الفضاء أشبه بمقبرة للأحياء بعد ان كانت فيما مضى مقبرة للموتى.
وفي المغرب وبفضل العناية والروح الخلاقة أضحت بعض جهاتها غير الساحلية حية بل قبلة للسياح من انحاء العالم وهنا اذكر فاس وشفشاون كما مراكش. وشفشاون الامازيغية الرابضة في أعالي جبال الريف صارت انموذجا فريدا في استثمار جوانب شكلية من تراثها. فاللون الازرق الذي كان في المنطلق طلاء خاصا يميز بيوتات المغاربة اليهود عن إخوتهم المسلمين الهارب كليهما من الاندلس، اعيد توظيفه بابداع وبصفة ذكية على واجهات المنازل وبعض انهج المدينة القديمة فاضفى على المدينة جمالا وبهاء وصار لونها الرسمي.
والمدينة العربية في المغرب تعد وجهة أساسية للزائر الأجنبي يدلف الى ازقتها الضيقة واسواقها العتيقة ليعيش اجواءها المشحونة بعبق التاريخ. وقد حافظت فاس وبالمثل المدن الأخرى بقوة على معالم ورموز القديم وما يكتنزه من سحر وابهار خاصة منها الانشطة الحرفية الاصيلة.
وفي صفاقس التاريخية افتقدنا أنشطة حرفية تقليدية غير قليلة كانت من زينتها، أما معالمها وآثارها التاريخية الباقية على قيد الحياة، فهي كنوز لا تقدر بثمن لكنها بحاجة إلى ان ينفض عنها الغبار ليرجع إليها بريقها. وهنا أذكر ان بعض الغيورين على صفاقس ارادوا لها في وقت من الأوقات (الثمانينات من القرن الماضي!!) أن يكون لها تقاليد سياحية عن طريق ضبط مسلك سياحي ينطلق من القصبة او الرباط القديم الى مقهى الديوان ثم سيدي عمر كمون الى برج النار ومن هناك إلى دار الجلولي والجامع الكبير وسوق الحدادين عبر سوق الربع وسوق الجزارين وسوق الصباغين (1) ولكن ذلك الحلم تبخر بسرعة ولم ير النور أبدا.
فمتى يهب التونسيون لنجدة بلادهم، فهذا ليس بعزيز عليهم ؟
ومتى يتصرف بعض التونسيين بمثل ما عاينته عن المغاربة من انضباط في الطريق ومن إلتزام بنواميسه، ومن عناية خاصة بمظهر عربات ” التاكسي ” ، فهذا ايضا ليس بعزيز عليهم ؟
(1) في 20 فيفري 88 نظمت جمعية صيانة المدينة يوم اعلاميا حول المسلك السياحي لفائدة حرفيي السياحة –
أنظر شمس الجنوب في 26/2/1988