اذاعة صفاقس : صوتٌ لا يخبُو…عَطاءٌ لا ينضَبُ

ظُروف بعث الاذاعة الجهوية بصفاقس
حلمُ المثقفين في جهة صفاقس في بداية الاستقلال وخلال السنوات الأولى من الحكم تمثّل أساسًا وفي درجة أولى في تجميع كل الطاقات الثقافية (أدبية، فنية، موسيقية، مسرحية، تراثية، تربوية) وإسماع صوتها وبيان نشاطها من خلال إذاعة جهوية تكون صدى لكل أعمالها وأنشطتها…
وكان لهؤلاء المثقفين ما تمنّوا وتَـتَحقَّقُ الأمنيةُ خمس سنوات بعد الاستقلال وبالتحديد يوم الجمعة 8 ديسمبر 1961 من خلال قرار رئاسي يقضي ببعث اذاعة جهوية بصفاقس…
قرار أمضاه الزعيم الحبيب بورڤيبة ونُشِرَ بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، هذا القرار سَهْلُ الكتابة والاعلانُ عنه أيسرُ لكنَّ التنفيذَ في بعث اذاعةٍ يَتطلبُ تسلُّقَ الجبال والغوصَ في أعماق البحار والنفوذَ الى أقصى المسالكِ والممرّات…
القرار أُعلن عنه ولا فضاء للعمل، ولا أجهزة تقنية جاهزة، ولا معدّات فنيّة متوفرة، ولا فريق كامل جاهز للعمل…
ويَدُقّ ناقوسُ الانطلاق…تتوحّدُ الجماعةُ وتتآلفُ القلوبُ وينخرطُ الجميعُ في انجاح هذا المشروع الاعلامي، يتحمّسُ جيلُ المثقفين والمبدعين والأدباء والفنانين والموسيقيين تحت شعارٍ واحد : انجاحُ هذا الصرح الاعلامي : اذاعة صفاقس
– فكّر كبيرُهم في الفضاء…حسنًا…
الاستديو بالمسرح البلدي…موافقون ؟…نعم موافقوان…
– الأجهزة…لا خوف من ذلك…سيارة في اتجاه الاذاعة الوطنية لجلب ما يُمكن الحصول عليه…أجهزةٌ مستعملة، لا يهمُّ…موافقون ؟… نعم موافقون
– التقنيون : اثنان من أبناء الجهة يعملون في العاصمة وثالث من الجزائر…موافقون ؟… نعم موافقون…
– محطة الارسال جاهزةٌ بمحطة طريق تونس، والحمد لله…موافقون… نعم موافقون…
– ينطلق البث الآن…ما رأيكم ؟
– ترقّبُوا حضورَ الوفدِ الرسمي…!
– هم جاهزون، يصفقون، يتقدمهم الأستاذ الشاذلي القليبي كاتب الدولة للأخبار، محمد بالأمين الوالي، عبد المجيد شاكر رئيس البلدية وجمهور من المثقفين
– اعْط الاشارة الى الاستوديو!…سي أحمد… ! تفضل… !
– هنا صفاقس…الاذاعة التونسية…
هكذا صدحَ أحمد العموري عَبْر الأثير، الجمهور خارج المسرح البلدي والناس أهالي المدينة والأحواز في حالةِ جنونٍ فرحي واضعين ابرة الراديو على الموجة المتوسطة ويتابعون البثّ …الموجة المتوسطة 720 كيلوهرتر
بسم الله الرحمان الرحيم، على بركة الله… وهكذا واصل المذيع كلامه…
– الجمهور وصلته المعلومة منذ أيام عبر مُضَخّم الصوت من خلال سيارة اللجنة الثقافية التي كانت تَجُوبُ الشوارعَ معلنةً عن بعث اذاعة صفاقس يوم 8 ديسمبر…
ما كان أحدٌ يَحلم بأن تُبْعثَ هذه الاذاعة في هذا الموعد وبهذه السرعة العجيبة، لكن حماس بعض الوجوه أوْقَدَ هذا الفتيل وزاده الوضع السياسي دعمًا وتوقًا الى الحقيقة…
15 شهرا باستديو المسرح ثم التحول الى مكتب البريد 25 أفريل 1963 ثم الانتقال الى المقرّ الحالي يوم 18 جانفي 1983
ماهو الدعم اللوجيستي والمعنوي الذي عاضدَ بعث هذه الاذاعة وتونس في بداية الاستقلال ؟
*تمثل ذلك في النقاط التالية :
1/ الزعيم بورڤيبة كان يبحث عن أداة عملية تساند مسيرته السياسية وترَوّجُ لفلسفةِ حُكمِه وتدخُلُ البيوتَ لتوضّحَ مرامِي المعركة الكبرى (الجهاد الأكبر كما يقول) في كلّ مجالاتِها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومعاضدة عمل الاذاعة الوطنية حديثة العهد بعد استلامِهَا من الحُكم الفرنسي وتَوْنستِها في أواخر 1956…
2/ بالاضافة الى ذلك ولمّا كانت الاذاعة الوطنية تساند الثورة الجزائرية عمدت السلطة الفرنسية في تركيز جهاز تشويش يقضي بايصال صوتِ الاذاعة التونسية في حالة غير مرضية لكافة المستمعين في تونس وفي حالة رديئَةٍ جدًّا للمستمعين في الجنوب التونسي.
3/ وحدث أيضا في وقت سابق أن عمدت السلطات الفرنسية انطلاقا من الجزائر الى ضرب أجهزة البثّ بمرتفعات مدينة الجدَّيْدة المتاخمة للحدود والتابعة للاذاعة التونسية.
هذه الوضعيات مُتجمِعة ساهمت بقسط وافر في دعم فكرة بعث اذاعة صفاقس الى جانب العلاقة المرموقه التي كانت تجمع بين الزعيم بورڤيبة والمرحوم عبد العزيز عشيش أول مدير لاذاعة صفاقس…
هذا وتعتبر اذاعة صفاقس ثاني اذاعة جهوية على الصعيد العربي بعد اذاعة الاسكندرية في مصر التي بعثت سنة 1954.
تبقى اذاعة صفاقس بالأساس مشروعًا ثقافيًا فقد سعت دومًا الى المحافظة على هذه الخصوصيّة فأولت للثقافة اهتمامًا كبيرًا في برامجها المتعاقبة ولعبت دورًا أساسيا في الجهة في احتضان المثقفين وتشجيع المنتجين وتوفير الظروف المعنوية والمادية لبروز الابداع في مختلف المجالات الفكرية والفنية.
هي مركز اشعاع تتجه إليه كل الطاقات والمواهب ومجال فسيح للانتاج والمثابرة وبلوغ المقاصد في الاتصال ونشر المعرفة والحوار وترويج المنتوج الثقافي…
تبقى اذاعة صفاقس متميزة بطابعها الخاص ونكهتها الخاصة بفضل اجتهاد رجالها ونسائها وقد كسبت احترام كل الذين بلغهم صوتها من خلال مساهمتها في تطوير العقليات وتَحَفُّزِ الهمم والتعريف بالطاقات وتقريب المبدعين وتصنيع الحدث الثقافي.
التحية لاولئك الذين كان لهم الفضل في تجشّم مسؤولية الادارة وهم على التوالي عبد العزيز عشيش، التوفيق الحشيشة، محمد قاسم المسدي، محمد الفوراتي، التيجاني مقني، محمد عبد الكافي، النوري العفاس، عبد القادر عڤير، رمضان العليمي، منير بن مصطفى،محسن التونسي، مالك الرياحي، هشام الكراي، مبروك المعشاوي وحاليا السيدة ندى الشعري التي بخِصَالها المحترمة وتكوينها الاعلامي تساهم باضافات محترمة وتجميع أسرة الاذاعة لما فيه صالح المستمع الكريم.
وبهذه المناسبة أتقدم لاذاعة صفاقس بأحرّ التهاني وأطيب الأماني بعدما عملت داخل الدار أكثر من أربعية سنة (1968-2011) مذيعًا ومنشطا ومساهمًا في مسيرة اعلامية مسموعة.