وَدارَتْ الأيَّـامُ..
كيف يمكن للمرء أن يجد السكينة وقد غمره السواد من الجهات
الأربع؟ وما هي سبيله للنور إن هو أراد الحياة؟ فطريق الواقع
مهموم، وطريق الأحلام ملغوم، أما طريق الحق فهو مسدود بحيث لا
سبيل للشعور بالأمن إلا من خلال الذاكرة- ذاكرة أيام زمان…
أستحضر أني قلت ذات يوم ببراءة الأطفال: أنا عصفور ناطق،
فربت كبير العائلة على خدي وقال: انك فعلا كذلك يا عزيزي حتى
تكبر، فتبرمت مذعورا وقلت: ولماذا اكبر!..
أتذكر أني لما قرأت في طفولتي أقصوصة "قطر الندى" أحسست
بحب جارف اهتز له كياني اهتزازا لم اعرف كنهه ولا مداه.. وأني
لما قرأت قصة "مجدولين" للمنفلوطي صعدت أنفاسي لأجواء عليا
واستقرت هناك شامخة بلا حد، زادُها عاطفة جياشة لا تنضب.
أتذكر أني لما قرأت "في مهب الريح"- لمرغريت متشل- أحسست
أن الحياة مشاعر وأنها لا شيء غير ذلك. لما طالعت نصوصا عن
الخريف والسيول والثلوج في أوربا من خلال شعر -غيستاف دروز-
وعن الربيع والبحر والحصاد في رياضِنا من خلال أنشودة الشابي:
اقبل الصبح يغني للحياة الناعسة- عشقت المعنى وحفظت الحرف
ووددت آنذاك أن تحتضنني الحياة في كيانها بين زهرة عطر ونسمة
صبا، بين حبات رذاذ وحفنة ثلج، عشقت ذلك فعلا والعشق حاجة
النفوس الكبيرة دون سواها.
لكنني اليوم لما افتح عيني وأطوف بناظري يمنة ويسرة لا أرى إلا
ما يهن المشاعر وما يربك النفوس.. ما يزعج وما يحبط العزائم،
لذلك عدت لإغماض عيني حتى تحتويني الذاكرة بالكامل فاشعر بعبة
حبلى من الهواء الصافي تملا الصدر قوة فاحسب أني أصبحت
طائرا فعلا واني حزت القوة كأفضل ما يكون، وامتلكت الحب
كأعمق ما يكون، وفزت بالدنيا كاتم ما يكون..
يا الهي هل يعقل أن يكون العالم خاليا من مشهد بوسعه أن يحتويك
بالحب والإخلاص والوفاء، يحتويك بشحنة من المشاعر؟ كيف
يمكنك أن تردد بأنك لا تحيى لذاتك فحسب ولكنك تحيى كذلك من
اجل الآخرين أولئك الذين يخصونك بالعطف والفداء فتهيم بهم ولا
ترى النور إلا من خلال عيونهم المشرقة؟..
إن اجتياز حاجز السنين المتتالية سنة بعد أخرى يبعدك فعلا عن
نقطة البداية ويقترب بك من نقطة النهاية، إنها سنة حياة ومسيرة
زمن بطوله لكن لغرة جانفي في حياتي مذاق خاص لانه عنوان حب
وأمن ونور، ولأنه سبيلي إلى الذاكرة التي احتوتني دوما والتي
وجدت فيها دون غيرها أجمل ذكريات العمر أمنا وسكينة، نورا
وإحساسا وسلاما..
فمرحى بك يا غرة جانفي وكل عام وأنت بخير يستعصي عن
الوصف.
loumitw@gmail.com