صفــــاقس الأبـيّــــــة
تعزّزت المكتبــة التاريخيــة التونسيّة بإصدار جديد للأستــاذ الدكتور عادل بن يوسف أستــــاذ التعليم العالي بكلية الآداب بسوسة والمتخصّص في التاريخ المعاصر. الكتاب يحمل عنوان “صفاقس الأبيّة” زمن الاحتلال الفرنسي سنة 1881 من خلال مذكرة النقيب بالخطّ 80 لجيش الاحتلال
((فالاردوراخورغ))
(Valère Duraffourg)
وهو الى جانب ذلك عضو بالجمعيّة الجغرافيّة
( Lille)بِـلِــيـل
الفرنسيّة وأصل عنوان المذكّره بالفرنسيّة : “مذكرة وصفيه في الجغرافيا التاريخيّة
حول المملكة التونسية : صفاقس وأحوازها” وقد صدر الكتاب عن دار صامد للنشر في منتصف شهر نوفمبر2020.
الصديق عادل بن يوسف مُغرم بصفاقس وأعلامها، وهو الذي درّس بكلية الآداب بصفاقس وأطّر عديد الطلبة وله محبّة خاصّة لصفاقس وأهلها منذ كان حدَثًا في قرية سيدي عامر المزوغي فيكلَفْ بالطقوس الثقافيّة والروحيّة التي كانت تميّز تلك الزيارة وقد ذكر ذلك في المقدّمة قائلا :”ولا أخفي على السادة القرّاء سرًّا وهو أنّ لنا محبّة خاصة لمدينة صفاقس وأهاليها لمكانتها الروحيّة في أنفسنا حيث أنّنا من أحفاد الطريقة العامريّة بتونس، المنسوبة الى الولي الصالح سيدي عامر المزوغي الذي أقام بمدينة صفاقس أكثر من أربعين سنة…كما أن الذكريات الجميلة لقدوم أعيان صفاقس وشيوخ ومقدمي “أحزاب الصفاقسيّة” للفنون الشعبيّة لاسيما حزب السيالة كلّ سنة من بدايات فصل الربيع وإقامتهم بزاوية سيدي عامر المزوغي بقريتي سيدي عامر يتقدّمُهم كبير الفنانين والعازفين الشيخ محمّد بوديّة…مازالت حاضرة في ذهني وأنا آنذاك طفل لم يتجاوز العاشرة الى اليوم…والأهمّ من ذلك العلاقات التي ربطتنا بالكثير من الصفاقسيين منذ عقود”
ويذكر لنا الأستاذ بن يوسف الظروف التي حفّت باكتشاف هذه المذكّرة. فعندما كان بصدد اعداد درس عام في احدى مسائل التاريخ المعاصر، عثر بموقع المكتبة الوطنيّة الفرنسية على كتيّب يحمل عنوان :
(Notice de géographie historique et descriptive sur la Tunisie : Sfax et ses environs)
وبعد مدّة عثر على الترجمة الانڤليزية لهذه المذكرة. فكأنّه عثر على كنز ولاشك أنّ وثيقة من هذا القبيل تعدّ كنزًا للباحث وعزم على ترجمتها الى العربيّة حتى يساهم في إماطة اللثام عن ملحمة الصفاقسيّة الأسطوريّة في الدفاع عن مدينتهم إبّان الحصار الفرنسي لها في جوان جويلية1881
والنقيب (دوراخورغ) كما ذكرنا، مدفعي بالفيلق 80 الذي كان يدكّ سور مدينة صفاقس بالقذائف أيّامًا، ولما كان كذلك يحمل عضويّة الجمعية الجغرافية (بليل) الفرنسيّة فقد حصلت قناعة لدى المترجم “بالقيمة التاريخية للوثيقة وبالعلاقة الوثيقة بين الجمعيات الجغرافية والتاريخية من جهة وبين المشروع الاستعماري الفرنسي بتونس”
والمذكرة كما يرى الأستاذ المترجم تدخل ضمن جنس الجغرافيا التاريخية والكتابات العسكرية في ذات الوقت.
ولم يكن الأستاذ بن يوسف مجرّد ناقل من لغة الى أخرى بل إنّه بذل جهدًا كبيرًا في تأطير هذه المذكرة تأطيرا تاريخيّا دقيقًا بين فيه دوافع الحملة العسكريّة الفرنسيّة على تونس وفصّل القول في أطوارها وفي حادثة جبال خمير والمقاومة الشعبيّة للاحتلال تفصيلا يُنبؤك عن باحث ثَبْتٍ من طراز عالٍ. وقد أفاض في القول حديثــا عن الصمود البطولي لمدينـــة صفاقس فــذكر لجــان المقاومــة وقوادهــا بأسمــائهم وألقابهم وعرّج على جيش الاحتلال المدجّج بأشد الأسلحة فتك وقد عزّز أسطوله ببارجة
(لوشاكال)
(Le Chacal)
يوم 27 جوان 1881
جاء الكتابُ في 306 صفحة وزعَت كما يلي : 148 صفحة للترجمة العربية والتأطير التاريخي و158 صفحة للقسمين الفرنسي والانڤليزي وملحق بـ 17 صفحة مع صور وخرائط ورسوم نادرة عن مقاومة أهالي صفاقس وعروش الظهير للأسطول الفرنسي هذا الى جانب الفهارس العلميّة.
يتناول النقيب الفرنسي في المقدمة أهميّة تونس في الاستراتيجية الاستعماريّة بحيث تصبح فرنسا متحكّمة في البحر المتوسط إذا ما احتلت تونس خاصّة وأنها تعدُّ مفتاحًا للمستعمرات الفرنسية في افريقيا. ثم انّ ثرواتها مهمّة لازدهار الصناعة الفرنسيّة.
وبعد المقدمة يقدّم لمحة تاريخيّة عن مدينة صفاقس ومعمارها وآثارها والأعراق التي تعيش فيها ولباس الصفاقسيين ويلح أثناء ذلك على جدّيتهم في العمل إذ يقول :”ولديهم مبادرة واسعة وحماسة في العمل وبراعة في عقل في كلّ المجالات فهم أكثر جدّيّة من جيرانهم”
ويعترف بنوع من الاعجاب بوطنية الصفاقسيين فيقول :”وأثناء احتلال تونس سنة 1881 قدّم الصفاقسيُون أدلّة على وطنيتهم فكانوا الوحيدين تقريبا الذين قاوموا الغزو وقاتلوا مستميتين أثناء القصف”
ويتناول النقيب (دورافورغ) بشيء من التدقيق الأنشطة الفلاحيّة والتجارية بصفاقس في تلك الفترة أي قُبيل الاحتلال. ويقدم لمحة عن أطلال براروس بهنشير الرڤة (من معتمدية الحنشة) وعرضا تاريخيا وبشريا وجغرافيا لجزر قرقنة. وقدّم مسحًا للطرقات المهيّأه وقدم تصوّرا للطرقات والسكك الحديديّة التي يجب تمهيدها عند استتباب الأمر للاحتلال وذلك قصد تسهيل نقل المواد الأوليّة من المناجم داخل البلاد وكذلك نقل المحاصيل الزراعيّة من الأراضي التي سيستولي عليها المعمّرون.
وقام بوصف الحملة على تونس وتحدّث عن ذرائع التدخل في البلاد وعن الخطّة التي اتبعتها فرنسا في الاستلاء على البلاد حتى وصول الجنرال بريار
(Bréart)
الى باردو وإمضاء الباي محمد الصادق
المعاهدة ثم تحدث بكامل التفصيل عن التعزيزات العسكرية التي أرسلت الى صفاقس قصد اخضاعها فقد ذكر مهامّ كل فرقة عسكريّة وأسماء قوّادها وكذلك فعل مع الكتائب التي كوّنت الأسطول الفرنسي فأعطى أسماء البوارج وقوّادها ثم وصف القصف وردود فعل الصفاقسيّة باليوم والساعة والدقيقة بل ذكر حتى الأوامر اليوميّة العسكريّة مع تصميم لعملية الإنزال. حتّى سقطت المدينة يوم 16 جويلية 1881 على الساعة التاسعة والنصف صباحًا بعد مقاومة أسطوريّة.
ونقرأ كذلك في هذه المذكرة الشناعات وجرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الفرنسي عندما دخل الى المدينة يقول :”….دخل القسم الثاني للوحدة الثانية المسجد حيث وجد حوالي عشرين من العرب كانوا يطلقون النار على جنودنا…وتمّ تنظيم الحصار المفروض على المسجد الى حين وصول ضابط مدمّرة البحرية
(De Brème)
الذي فجّر المبنى وردم العرب تحت أنقاضه
وبعد هذه الملحمة يعقد (دورافورغ) فصلا عن ثروات تونس المنجميّة والأراضي الصالحة للزراعة والصيد البحري والحاجة الى إنشاء ميناءات وطرق المواصلات مع بناء ميناء عسكري ببنزرت وكل ذلك حسب هذا الضابط الفرنسي من أجل :”تنظيم الدفاع عن السواحل واللجان المختصّة لدراسة مختلف التعديلات التي يجب إدخالها على الزراعة وتربية الماشية واستغلال مختلف منتوجات الأيالة”
ويختم الأستاذ الدكتور عادل بن يوسف الكتاب بجملة من الملاحظات القيمة حول هذه المذكرة وصاحبها فيؤكّد أن :”لم يكن كلّ من جمعيّة الجغرافيا بليل وضباط المؤسسة العسكريّة وفي مقدمتهم صاحب هذه المذكّرة “فالاردورافورغ” في خدمة الاستعمار الفرنسي فحسب، بل صلبه وأحد أدواته الرئيسيّة، حيث كان المرجع ثم سلطة الاقتراح”
ان هذا الكتاب على درجة كبيرة من الأهميّة حيث يضع بين أيدي الباحثين مادة تمثل وثيقة مهمّة لمزيد التنقيب عن بطولات وطننا العزيز أمام أعتى القوات العسكريّة آنذاك وهو كذلك كتاب لا يستغنى عنه القارئ العادي ليرفع رأسه اعتزازا بتضحيات أجداده وليعلم كذلك خطر التدخل الأجنبي في البلاد واستباحة خيراتها عندما تبلغ الدولة مرحلة من الضعف لا تخوّل لها الوقوف في وجه المعتدين.
الكتاب مصدّر بتقديم للأستاذ حامد الزغل ابن صفاقس والمسؤول السامي في الدولة في السبعينات في القرن الماضي.