شيء من السياسة وشيء من حياة العبّاسيين
كنت أريد أن أتوقف عن الكتابة في السياسة وأن لا أشارك في هذا الزّعيق الذي يصمّ آذاننا كل يوم، صباحا ومساء ويوم الأحد أيضا
لقد أثّرت السياسة في تفكيرنا وحياتنا الفردية وفي علاقاتنا الأسرية والاجتماعية
طبيب العيون نصحني وهو يفحص عيني الذي صار بيَاضُها أحمرَ أن أبتعد عن سماع الاذاعات وعن مشاهدة القنوات التلفزية فهي مزدحمة بالغوغاء، وأن أنشغل عنها وكأنّني لست من هذا الوطن وكأنّني أجلس في بيتي أشاهد شريطا هيْتشكوفيًّا لا يهمّني في شيء ولا يعنيني في شيء.
فلا مجلس النّواب وهرج أصحابه وشطحاتهم يُؤذيني ولا هؤلاء الذين يُغلقون الفانات كل يوم وفي مواقع الطّاقة يُربكونني.
ولا هؤلاء الذين يُريدون غلق فَانة الماء عن صفاقس يُفزعونني ولا هؤلاء الذين يسدون الطُّرقات بالعجلات والأحجار يستفزّونني. حسنا ! ! أيّها الطبيب العزيز، لقد تزاملنا في التعليم الابتدائي ومع ذلك مضطَرٌّ أن أساير تعليماتك.
حسنًا ! سأجلسُ في بيت وأضع أمامي قهوةً وقارورة ماء وأضع رجلي في سطل ماءٍ بارد ثمّ استمع الى أغنية، أيّ أغنية على فكرة تُعجبُني أغنية محمد عبد الوهاب “كل ده كان ليه”، وقد أستمع الى أغنية أم كلثوم “فكّروني” أو الى أغنية نجاة الصغيرة “ماذا أقول له”.
فما دُمنا نتلهّى عن وطننا بأشياء أخرى، فلا بأس أن تصْحَبَني الى عصر الدولة العبّاسية لعلّنا نعيش شيئًا من حياة أهل بغداد في ذلك الزمن، لقد ابتعدَ العرب عنْ بدَاوتهم، ابتعدُوا عن عهد الاسلام الأول وتركوا أهلهم في الحجاز والمدينة يعيشون حياة البادية والابل والشاءِ، فاجزلوا لهم العطاء، ولكنّهم منعوا عنهم السياسة والمناصب.
اذن لقد اختلط العرب في بغداد بأهل فارس، واخذوا عنْهم انْغمَاسَهم في التّرف والحياة الليّنة بل ومُتع الدنيا وآثامها ورُفع الاحتشام أو يكاد، فأصبحت العَواطف حرّة والألسنة حرّة وكل شي مباح، فاستمع معي الى أحد الشعراء وهو يُمازح فقيها :
سألتُ الفَتى المكيّ ذا العلم ما الذي يَحِلّ من التّقْبيل في رمضان
فقال المكيُّ : أمّا لزوجة ـــ فَسَبعٌ، وأمّا خُلَّة فثَمانٍ
لا تتهمني أيّها الطبيب بشتّى التّهم ولا تغضب، أعرف أنّ أبا نواس شاعرُ الغزل في النساء والغلمان والخمر وأعرف بأنه فاحشٌ في القول ماجنٌ قد يَسْفُل في بعض الأحيان الى لغة السّوقه
ولكم اتبعني الى حيث اجتمع أبو نوّاس مع أصحاب له وقَضَوا ليلهم عاكفين على الخمر، الى الفجر، فبدا عليهم السّكر جليّا، فقاموا الى الصلاة وأمَّهُم أحدُهم فغَلط وهو يقرأ قل هو الله أحد فقال أبو نواس مُسْتَهزئا :
اكثر يحي غَلَطًا ــــ في قل هو الله أحدْ
وقال آخر
قام طويلا ساهيا ــــ حتى اذا أعيا سَجَدْ
وقال ثالث
يزحَرُ في محرابه ــــ زَحير حُبلى بوَلدْ
فقال الرابع
كأنما لِسانُه ــــ شدّ بحَبل من مسدْ
هل رأيت كيف يَستلْهم السّكارى من القرآن شعْرهم وهل رأيت كيف أنّهم يعيشون الهزل أكثر من الجدّ، بل كأنهم لا يعرفون الجدّ أبدًا.
أراك ابتسمْت أيها الطبيب، وأراك لم تغضب..اذن فاتبعني الى حيث وقف أبو نواس بين أصحابه، ينْشُد شعرا في الخمر :
فالخَمْرُ ياقُوتةٌ والكأس لؤلؤةٌ من كف جارية مَمْشوقة القدّ
تسقيك من يدها خمرًا ومن فمها خمرًا، فما لك من سُكرين من بُدّ
لي نشوتان وللنُّدمان واحدة شيء خُصِصْتُ به من بينهم وحدي
عندما انتهى أبو نواس خرّ أصحابُه له سُجّدًا فقال لهم فَعَلْتُموها ! ! اعْجَمية ! ! أرى أنّ وجهك قد تجهّم، فلا تغضب ولكني أريد أن ألفِتَك الى أن أبَا نواس كان يُشير الى مذهب بَدأ يَبْرزُ بين الناس وهو مذهب الشعوبيّة، وهو تفضيل الفرس على العرب فاستَمع اليه وهو يَحْتقر الجنس العربي بعُنفٍ واسراف في ذمّ القديم :
يَبكى على طَلَلِ الماضين من أسد لا درّ دّك قل لـــــي من بنو أســــــدِ
ومن تميــم ومَن فيس ولَفُّهُما ليس الاعاريب عند الله من أحدِ
لا جفّ دمعُ الذي يبكي على حجر ولا صفا قلْبُ من يَصْبُو إلى وَتَدِ
أيّها الطبيب، قد تكون تفاجأت بشيء من شعر ومن حياة هذا الشاعر الماجن، لقد كان توجّهك علميا لذلك لم تكُن تعرف أبا نواس ولعلّك كنت تَلُمُّ به إلماما خفيفا، ولم تكن تَعلم أنّ أهل عصره كانوا يُكبرونه لأنّه عليمٌ باللغة، عَليمٌ بالأدب، عليم بالفقه وكان فقهاءُ عصره لا يَأْنَفُون أن يُحدّثوه ويتَحدثون عنه ولعلك تذكر الجاحظ صاحب كتاب “الحيوان” فقد روى عن أبي نواس وروى عنه أيضا الشافعي أحد أيمة المذاهب الأربعة. لقد كان له حظٌّ كبير في العلم، وقدْرٌ كبير بيْن علماء عصره.
وصلتْ جلستُنا أيها الطبيب الى نهايتها، وسأدفع ثمن الفحص الطبيّ قبل الخروج، أما أنت فَسَتُصافحني بابتسامة باردة وتتركني تائها في زحام السياسة والسياسيين.
بقلم عبد الكريم الحشيشة