الزمن والتطور
منذ زمن غير بعيد كنت أقلّ إدراكا لطبيعة الزمن . فكلّ ما كان يقال في المجال كان بالنسبة لي مجرّد خيال شعري أو خيال علمي ولولا احتواؤه على حيّز من المنطق والعقلانية لكنت اعتبرته مجرّد هذيان .
كلامي عن الزمن سوف لن يخوض في تلك المسائل العلمية مثل السفر عبر الزمن عند فرضية تخطّي سرعة الضوء ومثل اختلاف الزمن بين مختلف أرجاء الكون .
مرّ زمن لكي أعي نسبية سرعة مرور الزمن . فهو سريع عند السعادة واللذّة وبطيء عند المشقّة والعذاب . وانقضى زمن طويل حتى ألاحظ حقيقة الزمن المضغوط والذي بحكمه تصبح أحداث طفولة مرّ عليها نصف قرن في مرأى بعض الليالي . الحاصل أنّ الزمن لا يبيع أسراره إلا بعد فرض شروط الدفع فلا يقبل إلاّ عملة الوقت .
والإنسان في دنياه سجين الزمن منذ ولادته إلى مماته . ومدى حياته يكون حبيس لحظة متحرّكة تمرّ به من الماضي في اتجاه المستقبل فلا يمكنه استرجاع أحداث مضت ولا سبق المستقبل .
ارتباط الإنسان بالزمن يشبه من زاوية ما ارتباط الأرض بالشمس : لا يمكن للأرض الانفصال والشمس تصنع توقيت الأرض وتجري بها في الكون الفسيح .
الزمن هو قوّة الإنسان من جهة وضعفه ومحدوديته من جهة أخرى . فرصيد الإنسان من الزمن محدود ولو توفّرت لديه إمكانية العيش أضعاف المدّة في صحّة جيّدة لأمكنه من الرقي وتحقيق نتائج أفضل بكثير ممّا هو عليه . فعلى سبيل الخيال والافتراض يمكن أن يرتقي الكثير من الناس في سلّم العلوم والتقنيات والفكر والفنون ، فنرى أطبّاء أكفّاء يجمعون عدّة اختصاصات ومهندسين مخترعين في عدّة ميادين وموسيقيين يبدعون في العزف على كلّ الآلات وأدباء مفكرين يتقنون كلّ لغات العالم وخبراء يفقهون كلّ القوانين ونرى الكثير ممّن يجمعون بين مختلف الميادين كالطب والهندسة والعلوم بتقسيماتها واللغة والفكر والفنون .
ولكنّ الإنسان مقيّد بمحدودية الفترة الزمنية المعاشة ومن ذلك هو محمول على حسن التعامل مع الزمن . كلّ إنجاز يقتضي استهلاكا للوقت ويشترط في اكتمال الأعمال امتلاك الرصيد الكافي . على الإنسان إذا اقتصاد وحسن الإدارة والتصرّف في الوقت . وإن كانت حسن الإدارة والتصرّف تشمل العديد من النواحي منها عدم الإهدار واستنفاد كل دقيقة والتقسيم والتنظيم ، الاقتصاد يمكن أن يلخّص في الإسراع .
الإنسان مجبر على التسابق مع الزمن وسرعة الإنجاز شرط أوّلي للنجاح . وما ينطبق على الأفراد ينطبق على المجتمعات والشعوب حيث أنّ المجموعات الناجحة هي تلك التي تحسن استغلال الوقت . فلو تفحّصنا تاريخ الإنجازات على الصعيد العالمي أو المحلّي ، الجماعي أو الفردي ، للاحظنا أنّها كانت دائما ترتكز على المثابرة والثبات والتفرّغ . والتفرّغ لا يرادف أحادية النشاط بل هو ذلك الإصرار على التمادي في نفس العمل بالتوازي مع غيره من الأعمال تماما كما تطبخ الأطباق في المطبخ . وأحسن تمثيل للمسألة يخصّ الجانب الفكري للإنجازات حيث أنّ الفكرة يمكن أن تلازم صاحبها فتربو وتنضج دون أن ترتهنه أو تحتكر طاقاته ، بل إنّ بعض الأفكار تولد أثناء النوم . وتأكيدا للمقولة الشهيرة ” الحاجة أمّ الإختراع ” ، الحوافز من طموح وضرورة هي سرّ العزيمة والإصرار على الاستثمار الأمثل للوقت . من واقع الإنسان وموقعه إذا ، سرعة الإنجاز هي شرط من الشروط ومقياس لا غنى عنه لتقييم القدرة .
أمّا من مقام الإله الخالق ، الله الذي ليس كمثله شيء ، الأمر يختلف تماما . الله تعالى علوّا كبيرا عمّا سواه هو خالق كلّ شيء ، فوق المادّة فوق المكان وفوق الزمان ، لايحتويه مكان ولا يلزمه زمان ، سرمدي ، هو الأوّل بدون بداية والآخر بدون نهاية . والقدرة الإلهية لا يمكن أن تقاس أو تقيّم باعتبار الزمن وحقيقة ” كن فيكون ” لا يصحّ أن تقيّد بمعنى الآنيّة . في هذا الإطار القبول بفرضية الخلق على مراحل طويلة الأمد تندرج ضمن القناعة بحكمة إلهية نجهل جوانب منها ولا تشمل البتّة شبهة الاستنقاص من القدرة والإعجاز الإلهي بل ربّما تجلّت الحكمة والإعجاز بدقّة أكبر في خلق منظومة للتطوّر الذاتي، خصوصا بالنسبة للإنسان الذي يجيد التواصل والتدوين فيستطيع أن يراكم المعارف والإنجازات عبر الأجيال .
وفي السياق ودون الغوص في بحر التفاسير، هذه بعض الآيات التي تشير في العموم إلى التطوّر والمرحلية في الخلق :
” قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلا ” ( الكهف .37 ) . ” وقد خلقكم أطوارا ” ( نوح .14) . ” والله أنبتكم من الأرض نباتا ” ( نوح .17 ) . ” ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشر تنتشرون ” .( الروم . 20 ) . ” يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك في أيّ صورة ما شاء ركّبك ” ( الانفطار . 6 .7 . 8 ) .
نظريا ، الحقائق العلمية أي العلم الحقّ لا يتنازع مع محتوى القرآن الكريم . الله واضع النظم العلمية هو الذي وضع القرآن . بعبارة أخرى ، ما ثبت من علم لا يمكن أن يتناقض مع الفهم الصحيح لمحتوى الرسالة وإذا رصد تنافر بين العلم والقرآن فمعناه إمّا أن تكون النظرية العلمية غير صائبة وعلينا التطلّع إلى إصلاحها ، أو أن يكون فهمنا للآية قاصرا وغير موفّق . ورغم نفي الكثير من العامة والخاصة ، لا يزال القرآن يحتفظ بالكثير والكثير من الألغاز. ولا تسلني عن السذاجة والغرور إذا اقترنا بالتحجّر والتسلّط ؛ يغلق أصحابها كلّ أبواب البحث والتساؤل ويحاولون إرغام الآخرين على ما اقتنع به فكرهم المحدود . وكلّ من عليها فكره محدود .
نظرية داروين الثورية للتطوّر كانت ولا زالت قصيرة النظر وفي حاجة للتطوّر . فقد اعتمدت في جوانب منها على فرضية الصدفة والعشوائية في منحى يخذل العقل المنطقي وعلم الاحتمالات وينفي عن الخالق دوره في تدبير الخلق وهي نظرية حديثة الولادة مبتدئة ، لا بالمقارنة مع عمر الكون طبعا ولكن بالمقارنة مع مسائل بتلك الأهمية والتعقيد . رغم ذلك يمكننا التفاعل بطريقة مجزّأة فنقبل مثلا بفكرة تأقلم الكائنات وتكيّفها مع الواقع المحيط ونرفض فكرة التحوّل من كائن إلى كائن مختلف نظرا لعقبة “الحصانة الجينية” .
ومن التجنّي والتعسّف الفكري أن نقرن عموم النظرية بالإلحاد والعبثية ، فمبدأ التطوّر يكون من تخطيط الخالق وضمن برمجته للعوامل الفيزيائية والحيوية في الطبيعة .
وفي المقابل فرضية تلقائية التخلّق بدعوى التشابه بين الكائنات مردود عليها. فذلك التشابه إشارة إلى وحدانية الخالق وإلى تطابق البيئة وتطابق منظومة المكونات والتفاعلات الكيميائية .
القرآن الكريم كتاب عقيدة بالأساس ويحتوي أسس التشريع ويضمّ مناهج التوجيه والهداية والنصيحة لمصلحة وخير الإنسان في الحياة وبعد الممات .
عند التطرّق لمثل تلك المواضيع المنسوبة أساسا للعلم ، لا ينتهج القرآن أسلوب التقرير المباشر بل يميل الى الإشارة والتلميح واستعمال التعابير المجازية لتقريب الحقيقة إلى ذهن القارئ حيث أن الموضوع يكون في الغالب بالغ التعقيد . بناء عليه ، لا تنتفي صعوبة تفسير آيات الخلق بمجرّد كسب التحدّي اللغوي والفهم المثالي للمفردات وليس من الحكمة الإعتماد على تأويل السلف ، أناس كانت في عصرهم الخرافات والأساطير مسيطرة ولم يكن للتفكير العلمي حيّز يذكر .
خلاصة الحكاية ، سوف يأتي على الإنسان حين من الدهر قبل أن يعلم سرّ الحكاية .