الزعامة الإستبدادية و الزّعامة الديمقراطية
الزّعامة في المجتمعات الديمقراطية تختلف عنها في المجتمعات الإستبدادية، كما أن خصال و سمات الزّعيم الديمقراطي تختلف كلّيا عن سمات الزعيم المستبد، و ما يجمع بينهما هو القدرة على التأثير في الأتباع و على تغيير الوقائع و توجيه التاريخ.
الزعامة الإستبدادية:
في سنة 1927 و خلال مؤتمر الزّعامة، تم تعريف الزعامة بأنها ” قدرة الّزعيم على التأثيرعلى المجموعة التي يقودها وحملها على الطّاعة والاحترام والولاء والتعاون” .
هذا التعريف يركّز على الجانب السلطوي للزّعامة، حيث يفرض الزّعيم على أتباعه الطاعة و الإحترام و الولاء و التعاون بحكم الشرعية التي تمنحها له الزعامة من أجل قيادة المجموعة و التحكم في مواردها. أغلب المنظّرين السياسيين )من ماكيافلي إلى ماركس( كانوا ينظرون إلى السلطة على أنّها أساس الزّعامة السياسية، ” السّلطة باعتبارها شكل من أشكال العلاقة التأثيرية. ويمكن ملاحظة اتجاهات بعض الزّعماء لتحويل فرصة الزّعامة إلى علاقة سلطويّة ممتدّة و مرتبطة بعواقب غير مرغوب فيها للأشخاص و المجتمعات، ممّا دفع العديد من المنظرين لرفض فكرة الزّعامةالاستبدادية ” .
الزّعيم المستبدّ يمكن أن يصل إلى السلطة بوسائل و طرق ديمقراطية، ثمّ يستغلّ هذه السلطة الممنوحة إليه عن طريق الإنتخاب من أجل فرض آرائه و توجّهاته على النّاس، و أبرز مثال على ذلك أدولف هتلر الذي وصل إلى السّلطة عن طريق الإنتخاب ثمّ تحوّل بعد ذلك إلى زعيم مستبد.
إنّ للزّعامة الإستبداديّة العديد من الآثار المدمّرة لنفسيّة الأتباع، و قد عبّر عنها عالم النفس العربي “علي زعبور” بأسلوب متميّز عندما قال: ” البطل يأخذني مني، يأخذ من إنسانيتي، يسرق من إنسانيتي التي أودها كاملة. وجوده ينقص وجودي، حضوره فعلا وتذكرا أو تخيلا أو تصورا يلبس حضوري، يعدم يلغي، وأنا أود أن أكون، أن اخلق، أن أعطي… وأنا لا أود أن يضاهيني وان يأمرني وينهيني ويقيد إرادتي ويمنع إرادتي مني ويمنع حريتي، ويأخذ مني المرتبةالأولى في الوجود والمعرفة…البطل سجن لي و دعوة للإستسلام أمامه…إنّه لا ينفّك يذكّرني دائما بوجوده العظيم و تميّزه و جذبه لي باتّجاهه رافضا منّي نقده، و داعيا إياي للتمسك به و بما يقوله من قيم و نظر… البطل أناني ومعقود على عوامل ذاتية. هو في السّقف و هو المحرّك، لا العواملالموضوعيّة و لا الجماعة.
وهو سيد التاريخ والمجتمع الحاضر وهو المستقبل… البطل يمنع الديمقراطية، يلغي الحوار يرفض النقاش، لا يؤمن بالحرية للفرد، هو عدو المساواة، يكره أن يساويه أحد…إنّ البطل يمنع التغيّر وهو يحتال عليك بك، تخلقه فيصبح ماردا يرفض العودة إلى الرحم أو القمقم. و يرفض أن تثور على واقعك عليه، فيسلّي و يخدّر، و يمتصّ النّقمة، و يسرّب التوتّر، و ينوّم، و يعد، و يرغّب، و يؤمّل، و يهدّد… نستسلم للبطل عندما يبلغ الشعور بالضعف والكسل والعجز درجة حادة… فعند الانقهار والانغلاق، عند الحاجة أو تهديد الشعور بالأمن والحياة تعطي الذات كل ما يطلب منها من تصورات وتخريفات يمكن أن تلقى على البطل.” يمكن للزّعيم إذن أن يستغل السلطة التي بين يديه، فيتحول بذلك إلى “مارد” و يحد من حرية الأتباع. و هذا النوع من الزّعامة لا يعد زعامة حقيقية، و لذلك فإن العديد من منظري الزّعامة لا يعترفون بهذه الزّعامة المستبدة التي تخرج عن المسار الصحيح و الإجابي للسّلطة الزّعاميّة.
كما لخّص لنا الأستاذ قيس ياسين في مقاله حول سيكولوجيّة الزّعامة، الإستراتيجية التي يعتمدها الزّعيم المستبد من أجل بسط نفوذه و هيمنته على الأتباع قائلا: ” فأولا: تمر الزعامة بدور النمو والاحتضان، وتحصيل ما يمنحها التأكيد الكامل والمطلق من شرائح متنفذة في المجتمع، وبعدها، تمر بمرحلة تالية، هي الانفصال عن تلك الشرائح ذات النفوذ التي أعطتها الشرعية، وغذتها بأسباب القوة والشرعية، وامتلاك القاعدة الجماهيرية والشعبية. وتبدأ لاحقا بإطلاق الأوهام والتهويمات حتى تصير واقعا محسوما ملموسا ومؤطرا، وفكرا مؤدلجا لا يدحض، وعقيدة منغلقة ومكتفية بذاتها، عندها ينقلب الزعيم على صانعيه ويصفي حساباته معهم جميعا، كي لا تشوب شرعيته أي شائبة من قريب أو بعيد.”
إذن، فالزّعامة الإستبدادية لها آثار سلبية على الفرد و المجتمع، و رغم ذلك فإنّ الزّعماء الإستبداديين لهم القدرة على تغيير الوقائع و توجيه أحداث التّاريخ و الأمثلة على ذلك عديدة( زعماء الفاشية و النازية، ستالين…).
و الزّعيم المستبدّ يتميّز عادة بنرجسية عالية، تجعله ينفي الآخر و يسلب منه حقوقه الأساسية. و هذه الزّعامة الإستبدادية تتناقض تماما مع الزّعامة الديمقراطية.
الزّعامة الإستبداديّة، هي انعكاس و تجسيم لظاهرة شخصنة السّلطة، هذه الظّاهرة التي ميّزت القرن العشرين (الأنظمة الشّيوعيّة، الفاشيّة، النّازية…). و قد شملت أيضا دول العالم الثّالث بعد تصفية الإستعمار(بين 1955 و 1965 ) . و هذه الشّخصنة من شأنها أن تعود بالسّلطة إلى المستوى البدائي، و قد تساءل “جون لاكوتير” Jean Lacouture حول هذه المسألة قائلا: ” الوسائل المستخدمة لضمان تحديد هوية المجموعة وتماسكها و تطورها من خلال شخصيّة، هي في نفس الوقت رمز ومحور ، أفلا يكون ذلك مخاطرة بالغاية؟ البطل، محفز الطاقات، عامل التطوير، رمز الهوية الجماعية، ألن يكون هدفا في حدّ ذاته و موضوع عبادة و أداة عودة إلى المقدّس؟ هو الذي يقدّم نفسه كعامل تحديث، أليس من المرجح أن يكون أداة عودة إلى البدائية؟”
الزعامة الإستبدادية لا يمكن أن تكون زعامة إيجابيّة، لأن لها آثار مدمرة على الأوطان و الجماعات، و هي قامعة لحرية الأفراد، و لا يمكن إلا أن تكون حاجزا منيعا أمام تطور المجتمعات، و لذلك فإن العديد من منظري الزعامة لا يعدها زعامة حقيقية، حتى و إن كان الزعيم يمتلك مواهب خطابية من أجل الإقناع و كاريزما قادرة على جلب المناصرين و الأتباع.
كما أن الزعامة الإستبدادية قادرة على تحويل وجهة التاريخ ، بحكم النفوذ المطلق الذي يتميز به الزعيم الإستبدادي، فزعيم النازية أدولف هتلر الذي كان يتميز بكاريزما هائلة و قدرة فائقة على الخطابة ، كان له دور كبير في اندلاع الحرب العالمية الثانية التي لا أحد يشك في أنّها غيّرت وجهة التّاريخ و في الآثار المدمرة التي خلّفتها على الإنسانية جمعاء.
الزّعامة الديمقراطية
الزّعامة الديمقراطية هي نقيض الزعامة الإستبدادية، و هي تسعى لضمان حرّية الأفراد و تهدف إلى تحقيق رغباتهم و طموحاتهم، وتحفز الأتباع من أجل تحقيق الأهداف و الغايات المرسومة و المرغوب فيها، و هذه الزّ عامة تجسّد فعلا إرادة الأتباع، ” متأثرا بحاجات اللأتباع فإنّ الزّعيم يعمل على تركيز طاقاتهم في اتجاه محدّد.فالزّعيم الأوحد يجسّد إرادة المجموعة. و الزّعامةهي من نتاج الاحتياجات القائمة و هي العلاقة الرّابطة بين الزّعيم و الأتباع.”
و لقد عرّف الرئيس الأمركي “دوايت إيزنهاور” Dwight Eisenhower الزعامة بكونها القدرة على” حمل النّاس على العمل سويّا ليس فقط لأنّك تقول لهم بفعل ذلك الأمر و فرض أوامرك ولكن لأنّهم يريدون القيام بذلك العمل بشكل تلقائي …أنت لا تقود عن طريق ضرب الناس على رأسهم، فهذا اعتداء و ليس قيادة.” 53 ، فالزّعامة بهذا المعنى تعكس إرادة الأفراد و هي وسيلة
لتحقيق ما يرغبون فيه. ويرى العديد من الباحثين في هذا المجال بأنّ الزعامة هي “إقناع ناجح بدون إكراه” . فالزّعامة من هذا المنطلق هي عملية تفاعل إجابي بين الزّعيم و الأتباع. و هي تجسيد لرؤية تنموية بعيدة المدى. و قد عبّر أوهنو و شيمامورا Ohno & Shimamura عن ذلك قائلين:” الزّعامة الجيّدة تتضمّن رؤية تنمويّة طويلة الأمد وامتلاك إرادة سياسية قوية لتحقيق تلك الرؤية.” و يرى فيادلر (Fiedler) أنّ الدور الأساسي للزّعيم يتمثّل في توجيه الجماعة الّتي يقودها من خلال قوله: ” السلوك القيادي يعني الأعمال الّتي يقوم بها الزّعيم في سياق توجيه وتنسيق نشاط أعضاء جماعته” . فالزّعيم “الديمقراطي”هو موجّه للجماعة التي يقودها، و لا يمكن له أن يفرض رأيه أو خياراته عليهم. و الزّعيم بحكم المركز أو الدّور الذي يحتله يقوم بتنسيق أدوار المجموعة وفقا لأهداف و غايات محددة تنسجم و رغبات و طموحات الأتباع . وإنّ ” مفهوم الدّور للزّعامة تأكّده نتائج البحوث…فالزّعامة باعتبارها دورا متباينا مطلوبة من أجل دمج مختلف أدوار المجموعة و من أجل الحفاظ على وحدة العمل في جهد المجموعة بهدف تحقيق أهدافها.”
من خلال التعاريف المقدّمة – ولو بشكل موجز و مبسّط- ، نلاحظ الفرق بين الزّعامة الإستبدادية و الزّعامة الديمقراطية، فالأولى تتمحور حول رغبات الزّعيم و أهدافه و رؤاه و تصوّ راته الذاتية و ميولاته الشخصية، التي يمكن أن تتلاقى و تتماهى مع المجموعة التي يقودها بالضّغط و القوّة و الغصب لا بالإقناع ، و قد وجد هذا النوع من الزّعامة الإستبدادية منذ بداية التاريخ و لا يزال موجودا في زمننا الرّاهن. و لنا في ذلك أمثلة كثيرة من الزّعماء الإستبداديين سواء في المجتمعات الغربية أو العربية و هذا النوع من الزّعامة له انعكاسات سلبية على الأوطان و على نفسية الأتباع. أمّا الزعامة في النظم الديمقراطية، فهي تهدف إلى تحقيق إرادة المواطنين و طموحاتهم انطلاقا من شخصية الزّعيم الفذّة و المتميّزة و الموهوبة.
و هذا النوع الأخير من الزّعامة نجده -عادة – في النظم الديمقراطية الحقيقية التي توظّف الزّعامة من أجل تحقيق رؤية تنموية طويلةالمدى على أرض الواقع، و هذه الزّعامة الديمقراطية تتفق مع منظور علم النفس للزّعامة.لا يمكن أن ننكر أهمّية المجهودات الفكرية للعلماء و المنظرين من أجل بلورة نظريّات و مفاهيم حول الزّعامة منذ بدايات القرن الماضي، و المجهودات لازالت متواصلة في هذا المضمار. إلاّ أنّ علماء الزّعامة توافقوا على شيء و هو أنهم لا يستطيعون الوصول إلى مفهوم موحّد للزعامة… خلاصة القول يتمثل في أنّ الزعامة مفهوم معقد و ليس من السهل الوصول إلى تعريف موحّد له.
د. حسن النجار