الخِمَار الأسْود..
لم يبكِّر الحلاق يومها بفتح محله فوقعت في التسلل ولكي لا اشعر بقسوة الانتظار في أي مأرب من المآرب- أخذتني رجلاي لفسحة قصيرة بمغازة كبرى. دلفت وكانت فرص قيامي بمثل هذه الفسحات نادرة- طفت بين الممرات فوجدت البضاعة لم تتغير تقريبا وأحسست انه لم يعد يستهويني منها شيء.. ربما لان صاحب المحل غيْر خبير بقواعد السوق أو ربما لان اهتماماتي تبدلت.. كنت أخطو خطوات متثاقلة أتوقف أحيانا من غير هدى. كانت أصناف البضاعة المعروضة تكتسب أهميتها لديّ ممّا توحي به في ذاكرتي:
هذه الولاعة تذكرني بعهد مضى كنت فيه مدخّنا بامتياز. قارورة العطر هذه- في شكلها هذا- تشهد أني في شبابي أهديت يوما لعمتي واحدة مثلها ولم يسعفها الموت حتي اهديها ثانية وعدتها بها لما عبرت لي عن إعجابها الكبير برائحتها. هذه القمصان تثير فيّ ذكرى تمسكي بارتداء ما كان منها ذا أكمام طويلة حتى في عز الصيف.
انظر، أتلمس، أتذكر، وسرعان ما استرعى انتباهي ذاك الخمار الأسود الشفاف. ذكرني هذا الخمار بما جاء في كتب الأخبار:” قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد”.
ويخطف البرق الذاكرة لتلف الأيام وتستحضر أن للخمار في رتل حياتي نبضا مخصوصا يفوق الوصف ويجعل شحنات النفس تتصارع بين الذات والمحيط وتتسلل عبر مسام الجسم لتستحيل إلى كتل جياشة من الأحاسيس بما هو فخر، بما هو سحر، بما هو جنون.: فخر متأصل تنبع جذوره من التوفيق في أرضاء الضمير بما يشبه المعجزة، وسحر يعطي الانطباع بان الانسجام بين العقل والهوى ليس بالمحال، وجنون يترجم عن فيض من المشاعر كأبلغ ما يكون الشعور في أعماق نفوس قوامها حس مرهف واعتزاز بالشهامة.
قد يكون المرء في مستوى هذا الانسجام وهذا الشعور.. وقد لا يكون لكن الجزء المتمم للواحد يظل شامخا ساميا، ويظل رمزا لنقاء العواطف وسلطان الجمال، يظل باعثا في الحياة لذة عشقها السرمدي. وان امتد النبض في العروق فلان الحياة ما زالت تتغذى من رحيق الوفاء والإخلاص و… “أما إذا خمدت حياتي وانقضى عمري وأخرست المنية نائي.. “ـ فطوبي لقلوب تهيأ لها من الحس ما يصنع المعجزات وحسبي من الدنيا انها لم تبخل علي بنبع من الحب الصادق لم يطوه النسيان.
بهذا اكتفي وسوف لن ارفع الحجب لحلاقي مهما ألح في السؤال. اليس كل حلاق ثرثارا؟.
التوفيق اللومي