الإتحاد العام التونسي للشغل: الرقم السياسي الصعب
تشكل عادة المسارات التاريخية الدور الأهم في تحديد ملامح الحياة العامة. ذلك هو الشأن بالنسبة إلى الإتحاد العام التونسي للشغل الذي كان مكونا هاما في النضال من أجل الإستقلال عندما كان فرحات حشاد قائد الكفاح الوطني في ظل وجود مناضلو الحركة الدستورية في السجون أو في المنفى. ذلك هوكذلك الشأن بالنسبة إلى الدور الذي لعبه رجال المنظمة الشغيلة في بناء أركان الدولة التونسية تصورا و تنفيذا.
كثيرا ما يستغرب البعض داخل تونس وخارجها مما يعتبر “تدخل” الإتحاد العام التونسي للشغل في الشأن السياسي الوطني والعالمي باعتبار أن النقابات لا يمكنها إلا أن تهتم بالمسائل المهنية دون غيرها. مثلما يتم هذه الأيام بإنخراط الإتحاد في التعبير عن رأيه حول الإستفتاء على الدستور المعروض يوم 25 جويلية القادم. وهو موقف لا يأخذ في الاعتبار السياق التونسي الذي أفرز واقعا قد يعتبر غير منطقي و حتى معقول في أطر أخرى. إذ أن ما نعيشه اليوم في خصوص الدور الذي تلعبه أهم منظمة شغيلة في بلادنا ما هو إلا نتاج لأحداث وملابسات رسمت واقعا معينا.
فالحركة النقابية في تونس وقبل نشأة الإتحاد كانت تتسم بالتلازم بين البعدين النقابي والسياسي. فلنتذكر المناضل محمد على الحامي الذي أنشأ نقابة تونسية صرفة (جامعة عموم العملة التونسية) سنة 1924 بوازع وطني قصد مكافحة الاستعمار و حشد و تحريك الجماهير كما تأكد عليه عديد المصادر التاريخية. ولعل هذا هو السبب الرئيس الذي يقف وراء اعتقاله ثم نفيه سنة بعد تأسيس الجامعة عموم العملة التونسية (1925) ثم نفيه خارج تونس لمدة عشر سنوات.
ترجيح كفة الرئيس بورقيبة
وفي السياق ذاته كان المناضل فرحات حشاد الذي أنشأ الإتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 هومن كان يدير الكفاح بما في ذلك المسلح (“الفلاقة”) ضد الاستعمار عندما كان مناضلو الحزب الدستوري في المنفى أو في السجون. ولذلك اغتالته اليد الحمراء التي كانت عصابة تتحكم فيها بالطبع الإدارة الاستعمارية الفرنسية في تونس. ولعل الكلمة الشهيرة التي استخدمها حشاد (أحبك يا شعب) تبرز بجلاء تام هذا الانخراط التام في قضايا الأمة ضد المستعمر. فهو لم يقل “أحبكم يا عمال”.
لا ننسى كذلك أن الزعيم الحبيب عاشور كان له دوررئيس في ترجيح كفة الرئيس الأول للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة سنة 1955 ومناصرته أمام خصمه أنذاك الزعيم صالح بن يوسف وذلك بالسهر على تنظيم المؤتمر الخامس للحزب الدستوري الجديد (“مؤتمر البعث”) في مدينة صفاقس. وهو المؤتمر الذي كرس رؤية الزعيم الحبيب بورقيبة في خصوص سياسة “خذ و طالب” و “سياسة المراحل” إزاء المستعمر الفرنسي في حين أن الزعيم صالح بن يوسف كان يطالب ب “الاستقلال التام” و لا غيره.
و المعروف في هذا الصدد أن الزعيم الحبيب عاشوركان دستوريا و هو الذي استخدم يوما بصريحة عبارة “نحن بورقيبيون” في اجتماع عام بداية سبعينات القرن الماضي و هو الذي قال كذلك “إن العمل النقابي دعم عمل الحزب و أجبر فرنسا على سماع كلمة بورقيبة” وذلك إشارة إلى دور المنظمة الشغيلة في التحركات التي كانت تتم قصد الحصول على الإستقلال.
و تجدر الإشارة في هذا الباب أن عددا كبيرا من نقابيي إتحاد الشغل كانوا مناضلين في الحزب الدستوري و تحملوا داخله مسؤوليات كبرى على غرار المناضل أحمد التليلي الذي كان في ستينات القرن الماضي أمين عاما للاتحاد وأمين مال الحزب الدستوري و عضوا بديوانه السياسي و هو أعلى هيكل بعد المؤتمر بالطبع. و هو الشأن نفسه للزعيم حبيب العاشور الذي كان عضوا بالديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري على غرار قادة المنظمات الوطنية الممثلة للأعراف و المرأة و الفلاحين و التي كانت بالنسبة إلى الرئيس الأول للجمهورية التونسية تجسد مظهرا من مظاهرما كان يسميه “الوحدة الوطنية”.
النقابي أحمد بن صالح و سياسة “التعاضد”
و قد كان لأحد الأمناء العامين للاتحاد خلال ستينات القرن الماضي و هو المناضل أحمد بن صالح دورا هاما في تنفيذ البرنامج الاقتصادي الذي دافع عنه الإتحاد في “مؤتمر البعث” و الذي عرف بسياسة “التعاضد” وهو الذي أكد فيه الإتحاد على ضرورة إعتماد المجمعات التعاونية و التعاضديات لخلق الخيرات. كما كان لعدد كبيرمن مناضلي الإتحاد العام التونسي للشغل من جهة ثانية من ضمن أكبر من بنوا السياسة الوطنية في قطاعات جمة: محمود المسعدي (التربية و التعليم) ومصطفي الفيلالي الذي ألغى نظام “الحبوس” (الفلاحة) و عبد الله فرحات (البريد و البرق و الهاتف و الدفاع الوطني ) و أحمد نورالدين (التجهيز و الإسكان).
و قد لا يعلم البعض أن من عهدت إليه الوزارة الأولي في بداية سبعينات القرن الماضي و الذي إختار لتونس السياسة الاقتصادية الليبيرالية التي مازلنا نعيش على وقعها هو مناضل نقابي الهادي نويرة. فقد ترأس بالفعل هذا الأخيرجامعة عموم التونسيين سنة 1938 و سخر جانبا من عملها لخدمة القضايا الوطنية إلى جانب نضالات الحركة الدستورية. و هو قائد وطني كانت تجمعه صداقة قوية بالحبيب عاشور الذي تولى الدفاع عنه بصفته محامي إلى جانب صالح بن يوسف و المناضل محمد مقني في أحداث 5 أوت 1947 بصفاقس من أجل الزيادة في الأجورالذي أصيب فيها عاشور بالرصاص. و من المؤكد أن هذا النضال المشترك للرجلين كان نافعا للبلاد إذ أنهما أرسيا سياسة تعاقدية بين كل الأطراف الاجتماعية خدمة للاستقرار في البلاد. و ذلك قبل أن يختلفا و تتم أحداث 26 جانفي 1987 و يقع إلقاء الحبيب عاشور و أعضاء من إتحاد الشغل في السجن في ما يسمى الخميس الأسود.
و قد تعاون إتحاد الشغل منذ إستقلال البلاد مع الحركة الدستورية بالرغم أنه لم يوافقها دوما و كون معها في بعض الفترات “جبهة وطنية” لخوض الانتخابات التشريعية و لم يغب النقابيون بصفة عامة منذ أول إنتخاب سنة 1956 إلى سنة 2011عن البرلمان ويشهد التاريخ بالدور الذي لعبله بعض النقابيين مثل الحبيب طليبة و محمود الغول و عبد العزيز البوراوي و النوري البودالي و مصطفى مخلوف و إسماعيل الاجري و الصادق بسباس في العمل البرلماني التونسي.
و من المفيد في هذا الباب التأكيد على أن أطرافا عديدة و من بينها جهات أجنبية تعي تماما هذا الدور السياسي الذي يلعبه الإتحاد في بلادنا. و لعل من أهم مظاهرهذا توافد عدد من الشخصيات من مكونات المجتمع المدني التونسي بما في ذلك الأحزاب على مقر الإتحاد العام التونسي للشغل كلما عرفت البلاد أزمات مهما كان حجمها. و هو الأمر نفسة بالنسبة إلى السفراء الأجانب.