إنّه نذٍير شؤْم
ليس من الهين على النفس المستقيمة ان تقبل بانحراف ابن آدم عن سبيل الحق والمنطق والأخلاق.. ليس من الهين عليها ان تقتنع بمبررات غياب الدولة عن موكب دفن احد الرموز الأطهار ممن كانت لهم- بلا جدال- ايادي بيضاء في معركة النضال من اجل بناء الدولة التونسية الحديثة.. الشاذلي القليبي ليس ملكا لاحد من المتصارعين اليوم على التموقع السياسي ولا حتى من المتنافسين بالأمس على السلطة. لم يكن القليبي في الحقيقة ملكا لاحد وانما هو ملك لذاته باعتباره واحدا من النخبة التي آمنت بالوطن وعملت بكل قواها ليعلو شانه ويشع نوره، كان فقيدنا مفكرا ناشطا ومناضلا رصينا ومثقفا حتى النخاع. وكنت شخصيا قد وجدت فيه كل الحوافز التي جعلت الثقافة بتفاصيلها تسري في عروقي ولا تفارقني حتى يكون عصبها آخر شرايين كياني نبضا بالحياة..
واني لاعتز بان كنت من بين الاقلام التي كتبت عن اول كتاب لسي الشاذلي “العرب امام قضية فلسطين” الذي صدر له سنة 1967- لقد حاولت التعريف به في بطاقات ثلاث متتالية كانت بمثابة تلخيص للمضمون حرصت فيه على تبليغ افكار صاحبه بامانة اكثر من اي شيء آخر، واني لأزعم ان مضمون الكتاب عرّف بصاحبه عربيا فكان في ما ارى بوابة ترشحه للامانة العامة لجامعة الدول العربية. واني اكتفي هنا باعادة نشر فقرة مما جاء في آخر حلقاتي تلك المنشورة سنة 1972.
” .. اننا نصارح الامريكان بانهم تجاوزوا حدود تمثال الحرية الذي نصبوه منارة للزائرين وانهم ماانفكوا يستهترون بقيم الاخلاق الدولية.. نصارحهم بهذا ونحن ندرك ان ما اسرائيل في اعتبار ساسة امريكا الا الولاية الثانية والخمسين لبلادهم وما يمنعهم عن اجراء قانوني لهذا الاعتبار الا ما سيصيب اسرائيل- لو تم ذلك- من تحديد في المدد بما تفرضه التراتيب الفدرالية بين مجموع الولايات المكونة للوطن. كما نصارح الروس بان اضطهادهم لليهود سنتي 1880/1881 هو الذي انشا فكرة الاستيطان ونشا عنه “باب الامل” من طرف احباء صهيون. ونصارح انفسنا بانه- لامر في نفس يعقوب- ساعد بعض العرب اليهود المستوطنين، ونصارح انفسنا ايضا بان النقص الفادح الذي نشكوه في الخبرة السياسية وعجزنا عن النظر البعيد اوقعانا في فخ مناصرة النازية رغم القيود التي تربطنا بالحلف، وكان ان اتحد العالم الحر ضدنا وهو يحاول اليوم ان يكتب علينا دفع ثمن اخطاء النازية مع اليهود. ولنصارح انفسنا ايضا ان مغامرة سنة 1956 وما يحيط بها من نقاط الاستفهام شجعتنا على لغة القوة واقعدتنا دون العمل الديبلوماسي ودون الدور الاعلامي الدولي.. ولنصارح انفسنا اننا نسيء الاختيار احيانا ونغتر بالمظاهر ونوكل بالمسؤوليات الحزبية او السياسية الى اشخاص لفظتهم الايام ونشد ازرهم حيث وجب التخلص منهم… ولنصارح انفسنا باننا لم نستفد من الاحداث وباننا صرخنا وهددنا ثم حشدنا قوانا وانتكسنا، وانسحبنا وبويعنا ولكننا لم نقم بقلب جذري في مستوى التخطيط والعمل وفي مستوى العقيدة والمذهب… ولنقلها بكل صراحة انه يهون علينا ان نخوضها حربا على العدو بواسطة جيش غير ملتزم بمبادئ قادته من ان نخوضها بواسطة جيش منقسم في تشكيلاته.. انه من الخور السماح بوجود تيارات وسط جيش محترف في جملته. تلك عبرتنا من المسؤولية التاريخية وعليها ترتكز مسؤوليات الساسة العرب.. فهم اليوم مدعوون الى تقويض جملة المبادئ التي تعتمد عليها الحركة الصهيونبة في العالم ولو ادي بهم الحال للتضحية بما يعز عليهم. وعليهم ان يعرفوا عدوهم المعرفة الشاملة ليستغلوا الفرص فيحركوا من اسباب الانقسام فيه وعندها يضعون امكانياتهم الحيوية موضع البذل فتنقلب الآية ويصبح الراي العام الذي كسبوا وده زمانا عارضا عليهم وده…”