الغربة و الاغتراب في رواية ولادة في السعير للكاتب سائد عثمان أبو جحجوح
قراءة في الرواية – الدكتورة انتصار علي أبو شاويش
فكرة الرواية:
بدأت الرواية في صفحتها الأولى باعتذار لكل الذين ضاقت بهم الأوطان، فكان البحر لهم ملجأً، وأصبح القاع لهم قبراً؛ لأن كل مفردات اللغة لن تسعف الكاتب في تصوير صراخهم تحت الماء، ولملمة قهرهم على اليابسة، حيث تدور فكرة الرواية حول هجرة الشباب من الوطن العربي عبر البحر إلى غربة المنافي؛ بحثاً عن إنسانيتهم التائهة، وأملاً في العثور على حياةٍ رغيدة في بلاد الجليد، حيث لا خوف عليهم هناك من فقرٍ أو بطالة، ولا خوف عليهم من محسوبية واضطهاد، أو حروب ونكبات، وتصوّر الرواية تفاصيل حادثة الغرق التي تعرضت لها بعض المراكب المحملة بالمهاجرين العرب الهاربين بأسرهم وأجنتهم عبر البحر الذي لا يرحم الأحياء، ولا يحتفظ بجثث الموتى، وصورت تفاصيل تلك المعاناة التي تعرّض لها بطل الرواية الذي غرق مع باقي الهاربين عبر البحر، حينما داهمتهم دورية لخفر السواحل وقطعت آمالهم وأحلامهم في الوصول، فغرق من غرق، ونجا بعضهم بأعجوبة، ومن ضمنهم بطل الراوية بعد أن أطلقوا نداء استغاثة، وتجاهلتهم الطائرة المحلقة فوقهم داخل المياه الإقليمية، فتاهوا عبر مياه البحر في سواد الليل، وتحت شمس النهار المحرقة، وقد امتلأت أفواههم بملح الفاجعة.
ويروي بطل الرواية -وهو شاب من قطاع غزة حاصل على الماجستير في الإعلام- تفاصيل تلك الحادثة بعد أن استفاق من غيبوبته داخل إحدى المشافي الإيطالية، حيث تم توقيفه وحجزه من بعد التعافي في مخفر الشرطة بدافع إجباره على البصمة، وتفكيره بالهرب من غرفة التوقيف التي افتُرشت بأجساد المحتجزين، إنه يسرد قصة تحطم حلمه وتجرعه للموت منذ عبوره نفق التهريب الواصل بين حدود غزة والحدود المصرية، وصولاً إلى الأراضي الليبية الملتهبة بحربها الأهلية، ومروراً بكل تفاصيل الرحلة المرعبة؛ لذا قرر أن يتمرد على قانون البصمة الإلكترونية الذي سيحرمه من حق اللجوء داخل أوروبا، الأمر الذي جعله يستخدم شفرة الحلاقة في تشريط رؤوس أصابع يديه، مما جعلهم يطلقون سراحه داخل إيطاليا، وبدأ رحلة أخرى من العناء والمخاطرة، والتشرد في الطرقات، إلى أن استقر به الحال داخل مراكز الإيواء وما فيها من ذلٍ وامتهان وعنصرية وفساد وقذارة واستغلال،ليستكمل رحلته الشاقة نحو بلاد الأحلام السعيدة(السويد)
إن الرواية تُجسد في تفاصيلها المأساوية معاناة شباب قطاع غزة عامة، وقد أغلقت أمامهم كل أبواب الحياة، وأنهكتهم الحروب، فلم يعد كل منهم يحتمل الفقر والعوز والضياع، فكان الهروب من النار إلى الجحيم هو الخيار!
إنها رواية الضياع النفسي، وقهر الذات، وعدم القدرة على العيش داخل الوطن؛ لأن الإنسان لا يجد فيه أبسط متطلبات الحياة اليومية، وإذا هرب إلى أرض الأحلام فإنه لا يستطيع التأقلم مع الواقع المر في المنفى، فهي رواية الاغتراب النفسي داخل الوطن وخارجه.
ورغم أنها الرواية الأولى للكاتب سائد أبو جحجوح، إلا أنها تكشف عن قدرة واضحة على سبر أغوار الشخصيات، واتساع الخيال، وغزارة الأفكار، وتوظيف مفردات اللغة بجدارة واقتدار، وهي من إصدارات دار الكلمة/ غزة، وتقع في 112 صفحة من القطع المتوسط.
عنوان الرواية:
يُعد العنوان عتبة مهمة من عتبات الولوج إلى النص، فالعنوان ليس حلية لغوية أو زخرفية في العمل، وإنما هو عتبة مهمة تساعد المتلقي على استكشاف العمل الأدبي، وحمل عنوان الرواية “ولادة في السعير” عدة مفارقات جدليّة؛ إذ يمكن أن يشير في دلالته العميقة(ولادة) إلى الشعور بالسعادة والبهجة الغامرة لاستقبال المولود الجديد، حيث الولادة عملية ينتهي بها الحمل والمعاناة والأيام الصعبة التي تحياها الأم، وتبدأ حياة الطفل الرضيع وما يشيعه من فرح وأمل على والديه، وإذا بالمتلقي يُصدم بلفظة(السعير) وما تحمله من قسوةٍ معنويةٍ ونفسية، فهي ليست ولادة طبيعية عادية تشعر الأم بعدها بالأمن والاستقرار والفرح، بل تبدأ معها مرحلة الجحيم والتعاسة التي تجرها هذه الولادة على الجميع، وهذا يعكس كثير من الآلام في حياة البطل داخل الوطن، وما إن يشعر باقتراب الوصول إلى الهدف، حتى يصاب بخيبة أملٍ كبيرة بسبب الجحيم الذي ينتظره في القارة العجوز، والتي دفع الكثيرون حياتهم ثمناً من أجل الوصول إليها، بحثاً عن أحلامهم المفقودة.
وقد جاءت كلمة(ولادة) نكرة لتدل على أن عملية الاغتراب النفسي مستمرة ومتجددة في النفس البشرية التي أرهقتها الحياة بكل ما فيها، وجاءت لوحة الغلاف منسجمة مع هذه الدلالات فقد يبدو لنا أن الطريق أمامنا سهلة ومعبدة أحياناً، وأمل الوصول إلى الحلم المفقود سهل وقريب، إلا أننا قد نفاجأ بالواقع الصعب الذي تحفه المخاطر، وترهقنا به أمواج الحياة المحملة بالنيران، فنغرق في منتصف الطريق ونهلك، وإذا اقتربنا من محطات الوصول نُكوى بلهيبها، وتحرقنا نيرانها.
مظاهر الاغتراب في رواية ولادة في السعير:
تُعد ظاهرة الاغتراب جزءاً من نسيج الحياة الثقافية والاجتماعية، وتأتي نتيجة للقمع التاريخي والسياسي والأخلاقي والاقتصادي، وهي كما عرّفها بعض علماء الاجتماع، تعني عجز الإنسان عن مواجهة الدولة التي تسيطر عليه، وتقرر مصيره، وتعني حالة من العبث وافتقاد الأشياء لمعناها، مصحوبةً بالقلق واليأس واللانتماء، وهي تجربة نفسية شعورية عند الفرد العاجز، تتسم بعدم الرضا عن الأوضاع القائمة، ورفض الاتجاهات والقيم السائدة، وهذا يدفع الفرد للانسحاب من المجتمع أو الرضوخ له ظاهرياً، والتمرد والثورة عليه.
وتعد فكرة الغربة والاغتراب في الرواية قديمة قدم الإنسان، وقد شهد المجتمع الغربي في مطلع القرن العشرين تحولات هائلة، حيث أصبحت الحضارة أداة تستخدمها الرأسمالية في تحقيق مآربها بالسطو واحتلال موارد الشعوب وخيراتها، وإثارة الحروب وإراقة الدماء على حساب جوع وموت الملايين؛ مما أدى إلى تمزق الإنسان داخلياً، وقد ظهر ذلك في كثير من رواياتهم مثل البؤساء لفكتور هيجو، والكوميديا البشرية لــ(بلزاك) وغيرها.
وقد صورت بعض الأعمال الروائية العربية نموذج المثقف الذي يعاني من اليأس والتشرذم وعدم التكيف، والاحساس بالانعزال والتشاؤم وانكسار الذات والاغتراب النفسي؛ نتيجة التغيرات السياسية والتدهور الاقتصادي، وتصدع الأبنية الثقافية والاجتماعية التقليدية وجمود القيم، كروايات نجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، وجبرا إبراهيم جبرا، وخاصة تلك الروايات التي ظهرت بعد النكبة الفلسطينية، وجسدت ضياع الفلسطيني في بلاد الشتات.
إن المتلقي لرواية “ولادة في السعير ” يكتشف بسهولة ويسر أن الشخصية الرئيسة في الرواية وهو(الراوي)، وكذلك الشخصيات الثانوية تعاني من حالات الاغتراب على مستويات متعددة، ويمكن تحديد مظاهر الاغتراب في ثلاث صور: الاغتراب عن الذات، الاغتراب الاجتماعي، الاغتراب الثقافي .
أولاً: الاغتراب عن الذات
يقال إن من يغترب عن ذاته يخفق في معايشة هويته في زخم خصوصيتها وتفردها، والإنسان المغترب عن الذات يشعر بالضياع ، أي يفقد القدرة على أن يتواصل مع نفسه، ويشعر بانفصاله عن ذاته، وقد جسدت الرواية على امتداد سطورها أوضح معاني الصراع النفسي، والاغتراب عن الذات، بسبب المحسوبية، وشظف العيش في الوطن، يقول البطل وهو الشخصية المحورية في الرواية:( لم أشعر حتى اللحظة بالندم على قرار الهجرة، ولا أظنني سوف أشعر لاحقاً مهما كان المصير الذي ينتظرني قاتماً، لن يجني الوطن مني الندم، هجرني قبل أن أهجره، نزعني من قلبه قبل أن أنزعه من ضلوعي، قتلني بظلمه وإجحافه قبل أن أقتله بداخلي، جعلني كما البهلوان أحابي الألوان جميعها، أتكلم بلسان التقية والنفاق؛ لئلا أخسر أحداً وأملاً بالحصول على وظيفة أعتاش منها، وتسترني) ص38.
ثانيًا : الاغتراب الاجتماعي
الاغتراب الاجتماعي يقصد به شعور الإنسان بالانفصال عن الآخرين، وانعزال الفرد عن الناس في المجتمع أو بيئة العمل، وعدم القدرة على التأقلم مع الآخرين، ويرى بعض العلماء أن هذا الشعور يأتي نتيجة عوامل نفسية مرتبطة بنمو الفرد، وعوامل اجتماعية مرتبطة بالمجتمع الذي يعيش فيه؛ مما يجعله غير قادر على التغلب على مشكلات الحياة من حوله.
وقد ظهرت بعض مظاهر الاغتراب الاجتماعي لدى شخصيات الرواية، ومنها الاضطراب في العلاقة بين شخصيات الرواية، وكان أبرزها ما حدث بين البطل وخطيبته بعد عامين من الحب وهو لا يقدم لها إلا الكلام المعسول، فقررت الانفصال عنه، ورغم ما تركه الانفصال من غصة في نفسه، إلا أنه لا يلومها ولا يعتب عليها، يقول:(ما الذي يجبرها على الارتباط بشخص عاجز لا يمتلك أدنى مقومات الحياة؟ ..استفقت على عمري الضائع في ترويض الظروف وسقي عشبة الأمل) ص39.
ويوضح بطل الرواية الأسباب القاهرة التي دفعته إلى تغيير قناعاته، وجعلته يفكر في الهجرة، وأهمها عدم القدرة على التأقلم مع الظروف السياسية والاقتصادية، والفقر والحروب التي صارت كما السنن الكونية ينتظرها كل عام، يقول:( لم يكن من السهل حسم أمري بالهجرة وترك والدين حجزت الشيخوخة مقعدها على مفاصلهم، عصفني الصراع مع نفسي، تبدلت وتغيرت قناعاتي، كان التحول مستغرباً لكل من يعرفني، فأنا من يدعو دائماً للعيش على تراب الوطن، وإن صار ترابه لظىً، تحضرني الآن وبقوة ملامح صديقي عدنان الذي كنت على النقيض من أفكاره عن الهجرة…خسر الكثير من المال ليحصل على هذه الفيزا، اغتال وقتها كلامي الفرحة من عينيه، نعتّه بالجبان والعاق لأهله ووطنه) ص40.
أما أمجد الشاب السوري ابن الخامسة والثلاثين الذي تعرّف عليه البطل صدفةً في أحد المتنزهات داخل مدينة نابولي الإيطالية، فقد عانى من الاغتراب الاجتماعي في لبنان بعد أن فرً نازحاً هو وزوجته وطفله إليه، وتجرع في لبنان مرارة الاستغلال، ونظرات الازدراء، وعدم القدرة على الاندماج في المجتمع اللبناني، حيث فتح محلاً للمأكولات كمحله في سوريا، فكان حجم المنافسة والتضييق عليه وعلى زوجته كبيراً، مما جعله ينسحب من السوق حفاظاً على رأس ماله، يقول أمجد:)عملت زوجته في مشغل للخياطة بمقابل لا يكفي قوت اليوم الواحد، لم تصمد في العمل طويلاً بسبب تعرضها الدائم للمضايقات والتحرش وخدش الحياء، رأى في الدول الأوروبية ملاذاً آمناً). ص52
صارت حياة أمجد أكثر تراجيديا بعد أن انفصلت عنه زوجته، وأجبرته على الطلاق بعد أن فشلت كل محاولاته في اللجوء إلى ألمانيا، والسويد، وتزوجت بعربي ثري يحمل الجنسية الإيطالية، أما عن ابنه فقد تحفظت عليه مؤسسات رعاية الطفولة عنوة بدعوى تعرضه للعنف، ويحرم من ابنه لمجرد أن قام بتوبيخه: (بسخرية يغلفها القهر يتساءل: أين كانت مؤسسات رعاية الطفولة حين رُمي بنا وأطفالنا على الحدود، ولا نجد من يغيثنا بشربة ماء، أين المؤسسات المدافعة باستماته عن حقوق المرأة والنساء تعرضن للتحرش الصريح من العسكر المنتشر على الحدود) ص55.
ثالثًا : الاغتراب الثقافي
يظهر الاغتراب الثقافي عادة لدى المثقفين الذين يتمتعون بقدر من الوعي والإحساس بمشكلات الأمة، ومعاناة الإنسان، وغالبًا ما يحدث اغتراب المثقف نتيجة تحطم الآمال المنشودة على صخرة الواقع ، وعجز المثقف عن التوافق والتكيف مع الأوضاع العامة، ومع القيم والتقاليد السائدة، فحينما بدأت الآمال داخل البطل تنكمش وتضمر وتدوسه حوافر البطالة، ومع ذلك لم يفقد الأمل، يقول:( عملت متطوعاً لسنوات عدة في جمعيات ومؤسسات مختلفة علي أفوز في نهاية المطاف بوظيفة رسمية، أجبرني شظف العيش على العمل في غير مجالي وتخصصي، صرت شخصاً لا أعرف لي هوية، ألبس رباطة العنق تارة، وتارة ملابس العمل في البناء، عملت سائق تاكسي، وعملت بائعاً في محالات تجارية، رأيت من أرباب العمل الأُميين قسوة وسخرية، وكأنهم يعوضون نقصهم بالتشفي من كل متعلم حامل شهادة) ص38.
إزداد شعور البطل بالاغتراب تعمقاً لعدم قدرته على جمع المال الذي سيمكنه من استكمال رحلته نحو السويد بعدما فقد عمله في مطعم داخل مدينة ميلانو، وقد أصبح يرى رحلة الهجرة إلى السويد مغامرة عبثية وغير محسوبة المخاطر، وقد وصل به الضجر والحزن إلى منتهاه، حيث راح يمشي بشوارع ميلانو هائماً على وجهه، ميلانو التي انتزعت أثارها وتماثيلها القديمة الحزن عن وجهه العابس ليستشعر حقيقة الحياة فهي لا تستحق كل هذا الحزن، فقد رحل الجميع ولم يتركوا خلفهم إلا الحجارة، يقول:( كل شبرٍ في المـدينة يهمس في أُذني: لا تغالي في حزنك، لا تأخذ الحياة على محمل الجد، رحل الجميع ولم يتركوا خلفهم غير حجارة وتماثيل تخلد التاريخ ولا تخلدهم) ص104. ويسترسل(انظر لأثر من ماتوا، حقيقة المـوت وحدها تُعلمك الحياة) ص105.
المطر الذي أخذ يُغرق شوارع ميلانو، دفع البطل للاحتماء داخل محطة قطارات، ليستشعر وجه الشبه بين القطار والحياة: يقول( أشعر بمتعة لا توصف وأنا أشاهد القطار يحط براكبيه ويصعد غيرهم، المـشهد يشبه الحياة، لا تكترث لمن يتأخر عنها، ولا تتوقف عند من يسقط منها سهواً أو عمداً) ص107.
وفي الفصل الأخير من الرواية صار البطل أكثر سخرية من الحياة بعد أن تمكن من شراء تذكرتين ببساطة تامة واحدة له والأخرى للفتاة السورية إيلاف التي تعرف عليها داخل مخيم اللجوء في مدينة نابولي، وجدها بمحض الصدفة داخل المحطة ضمن الجمع الذي يحتمي من المطر، جاءت لمدينة ميلانو تقصد البحث عن أي يعمل يوفر لها قوت يومها، لم يكن مصدقاً بعد رحلة العناء والمشقة ومشارفته الهلاك أن يعبر إلى السويد بهذه البساطة، يقول:( تسير الأمور ببساطة مريبة، نصعد للمقصورة، نجلس في الكراسي المـحددة حسب التذاكر، خمس دقائق بالتمام تفصلنا عن الانطلاق، إنها أطول خمس دقائق في الحياة، لا جلد لي على تحملها، أتمنى لو يدخل الوقت في حيز العدم لأجد نفسي في السويد كما وجدت نفسي في المـستشفى من بعد الغرق، لا أستبعد أن يحيطني مجموعةُ أشخاص يطلبون مني الابتسامة والتلويح لعدسة الكاميرا الخفية، لا أُصدق بأن معاناتي ستنتهي بهذه المـرونة والسلاسة، هل تصالحت الظروف معي، أم إنها الحياة المـتربصة بالكمائن والمـصائد التي تصطادنا في الدقيقة الأخيرة؟!) ص111.
وعند مشارفة القطار الدخول في أول محطة على الأرض السويدية، يستشعر البطل حقيقة تصعب مواجهة النفس بها وتحديدا بعد رحلة خسر ماخسر خلالها من أجل الوصول لهذه اللحظة: يقول( تتنفس إيلاف بعمق، تسحب هواء المــقصورة إلى جوفها، تقول: انتهى زمن المــعاناة والتشرد، أشعر أني أُولد للتو. لا أريد إفساد هذه الفرحة التي تغطي كل جوارحها، أهمس في داخلي: ستكون ولادة في السعير، لا نعيمٌ يا إيلاف، لا نعيمٌ لمن اضطرّه جحيم الوطن للهجرة، الشيء الوحيد الذي سيختلف من بعد ذلك تفاوت شدة السعير) ص112.
وفي الختام يمكننا التساؤل: هل وجد أبطال الرواية في الغربة إنسانيتهم التائهة، وأحلامهم المفقودة، وهل لامسوا الحياة الرغيدة التي كانوا يبحثون عنها؟ وهل وجدوا في بلاد الغربة وطناً بديلاً؟ وهل كانت غربة الأوطان سبباً في انتهاء اغترابهم الذاتي، وقهرهم النفسي، واستقرارهم العاطفي؟
الحقيقة: إن الغربة لم تكن لهم إلا سعيراً تنفتح منه أبواب الجحيم، حتى ولو انفرجت بعض الأبواب أحياناً، فهي تغرقهم في الهموم والضياع والتشرذم والذل، والعنصرية، والفساد؛ فالاغتراب النفسي يلاحقهم داخل الوطن وخارجه.
إن رواية (ولادة في السعير) تكشف جلياً ملامح الغربة والاغتراب الذي تعرضت له شخصيات الرواية من الدول العربية المختلفة، خاصةً في فلسطين وسوريا، وقد جاءت بأسلوب رشيق، وعبارات رقيقة تشعل وجدان المتلقي، وتجعله ينفعل مع الأحداث، ويتعاطف مع الشخصيات، وقد يجد نفسه أحيانًا يتماهى معها، وينبذ تلك الظروف التي رمتها في غيابات الغربة القاتلة، ويستهجن فكرة الهجرة من أصولها، وكأنها دعوة مبطنة من الكاتب لنصيحة الشباب بعدم التفكير في الهجرة، فالراحة الحقيقية لن تكون إلا على تراب الوطن.