اصدارات/ أول رواية لرجل الثقافة والتربية الهادي القاسمي بعنوان”رُطبًا جنِيّا”
صدرت هذه الأيام لرجل الثقافة والتربية بمدنين الاستاذ الهادي القاسمي رواية بعنوان رُطبًا جنِيّا وقام بتصميم صورة الغلاف الفنان طاهر عويدة
وبالعودة لهذه الرواية وفي تقديمه لهذه الرواية أفاد الأستاذ الجامعي الدكتور رضا الأبيض “رطبا جنيّا” للهادي القاسمي تجد مؤشراتٍ دالة على خصوصية السّياق التاريخيِّ والثقافي، وعلى ملامح من بنية المجتمع العقليّة والنفسيّة.. لا تختفي وراء بلاغة النصّ إلاّ لتظهر من جديدٍ معلنة أنّ النصّ، رغم أنه يظل في نهاية الأمر تأويلاً ، هو ابنُ بيئته وهو صدَى تجربةٍ متوتّرة لكاتبٍ يشارك “في العالم” ولا يكتفي بالوقوف المحايد على أطرافه..
تحملنا ” رطبا جنيّا” للهادي القاسمي إلى قلب قرية ” ينام أهلُها على سُكْرٍ ويستيقظون على صلاة”، قريةٍ لو لم تكن النخلة لما كانت.. قريةٍ وإنْ توزع أهلها بين غرف “القصر” وأكواخ الجريد سكنَى والإسلامِ واليهودية دينًا، وبين الرجولةِ والخسّة أخلاقًا والسذاجة والعمق تفكيرا.. فإنّ النخلة وما يدرّ جمّارُها من لاقمي ظلّا رمز وحدتِها وسببَ صمودها أمام الموتِ الذي تمدّد على أكثر من ثلثي مساحتها.
وليس اختيارُ الهادي القاسمي “رطبا جنيّا” عنوانا للرواية سوى دليلٍ ساطع على أنّ حكاية القرية هي حكايةُ النخلة والصراع الأبديّ ضدّ عناصر الموت وأسبابِه..
ففي مواجهة الموتِ والجوع والتشريد والاغتيال لا يجد أهلُ القرية غير النخلة أنيسًا يبدّد الوحشة، ولا يجد شبابُها غير ” اللاقمي” في كوخ ” الكومباطا” شرابا يبهج الروحَ وإنْ إلى حينٍ.
في قريةِ ” رقيّة بنت الكاسح” وزوجها العربي وأبنائها كازانوبة حفار القبور والسويسي المغدور وكومباطا بائع الخمرة وقمراء والمهدي، وجيرانها آفيطال زوجة موسيو يونا وفْشَيْكة وزوجته عيشة وولده مصباح ومهراس ولد النعناعة.. بقدر ما تشابهت الأجسادُ في عطبها والنفوس في حيرتها، اختار بعضُها الوحدة والصمتَ ملجأ وجد آخرون في اللاقمي مُسكّنا وفي مجلسه عوضا.. أما من اختار الكتابَ وحديث “المُساواة و العدالة ” فقد قضى غدرا.
في هذه القرية حيث لا كلابَ تنبح ومقبرتان تقولان هل من مزيدٍ، وحيث تقام صلواتٌ لا تنهى عن الفحشاء والعدوان، تتجذّر النخلة أصلا ثابتا تُلقي على العابرين البلحَ والحشفَ والشيص والعليق والغمق، ويرتفع فرعُها إلى السماء يُحلب ماءَ حياةٍ، في ” جدّيوة” أو ” درجيّة” أو “عْبارة” يشربه في “جنّة الصعاليك” الشبابُ والكهول بـ”كمية” تُلائمُهُ من رأس بصلٍ أو حِمّص أو أسنان ثومٍ..
إن الناظر في الرواية، بعين الأنثربولوجيِّ، يدرك بسير أنَّ النخلة التي تكرّر ذكرها أكثر من خمسين مرّةً، منها تسع عشرة مرّة ملحقة بالقرية على الإضافة ( قرية النخل) لم تكن شجرةً فحسبُ بل كانت الحياة والثقافة أيْ عاداتٍ في الأكل وآدابَ ضيافةٍ وطقوسَ سحر وحكايا وقصصًا عن الحياة والموت…
وبهذه النخلة شبّه العربي صلاتَه حينما قال: “إنّي أصلي كنخلة باسقة “. وبالنخلة شبهه الراوي في قوله: “كان العربي، ذاك الأصيل، كنخلة في صحراءَ. إنّه يحترقُ ولا شمس ولا نار”. وبالنخلة شبه زوجتَه: “رقية بنت الكاسح امرأة ثابتة كجذع نخلة مات لها نصف الأولاد عن عمر سريع وتركوها توقد الشّمع وتحترق”.
ولأن صلاةَ العربي كانت ” بالحبّ”، ولأنّ حبَّ رقية كان شمعةً تحترقُ لتضيءَ للآخرين، فإنّ القاسمي لم يجدْ في إقامة بنيانِ روايته، ابنة بيئتها، أفضلَ من النخلة استعارةً كونيّة وفي شرابها رمزا محليّا، حاملا قارئه، في لغةٍ حوارية، على أنْ يتشبث بهما ” كي لا يسقطَ في ظلام بئر الموت”.
إنّ من مظاهر شعرية “رطبا جنيّا”” التنوّعَ اللغويّ واللهجيّ الذي شكّلَ صورةَ لغتِها ونوعَ مراجع الشخصيات فيها وزوايا نظرهم لذواتهم وللعالم من حولهم..
لقد تضافرت في نسج خطابِ رواية القاسمي البنى النثرية الفصيحة والجملُ الشعرية والملفوظاتُ اليومية شكلا من الوعي الحواريِّ الذي بقدر ما يحاول استيعابَ تناقضات الواقع يفتح أفق القراءة ويوسع دائرة التأويل..
نعم، ما أثقل اليتمَ ، كما قال الهادي المهدي في مرثيته، وما أثقل الحياة دون فرح وحبّ!
ولكن، للحياة في رواية القاسمي وجهٌ آخر أيضًا..
هو الصلاة حبًّا في قرية يسّاقط نخلُها على الناس رطبا جنيّا، ويجري في الأحشاء لاقمي يجلّي بعض همومهم..”
موفق إن شاء الله