أريج الكلام (الغزل على لسان الغير)
في تراثنا العربي أشعارٌ رقيقة وصفت صبابَةَ العُشّاق وذكرت حرقة الأشواق. وكم زخرت كُتُب الأدب العربيّ بقصص العشق والغرَام التي يكون الشاعرُ طرفًا فيها.
ولكنّ الطريف أن بعضَ أشعار الغزل قد نظمها شعَراءُ على ألسنة عشّاق آخرين
والحقيقةُ أنّ الشاعر الغزليّ لا يكون دائما طَرَفًا في قصّة حُبّ حقيقيّة، وإنّما هي تجربةُ شعوريّة يعيشها الشاعر فيترجمها ابدَاعًا شعريّا. فلا أحَدَ يمكنُه الجزم بأنّ قيسًا العامريّ قد عشق حقيقة فتاةً اسمُها ليلى وأنّ لهذه الفتاة وجودًا فعليّا، إذ يرى بعض مؤرّخي الأدب أنّ الاخبارييّن كانوا يصنعون أخبَار العُشاق انطلاقا من النّصّ الشعريّ ثمّ يزعمون أنّ ذلك الشعر قد قيل بالمناسبة التي ورَدت في الخبر الموضوع. وسواءٌ أكانت تلك الأخبار حَقيقيّة أم موضوعَة فإنها تمثّل نُصوصًا ابداعيّة من أجمل ما نقرأُه في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
وقد ذكر الأخباريّون قصصًا غراميّة يكون فيها الشّاعرُ معبّرا عن خوالج عاشق آخر.
وأبدأ بقصّة علي بن الجهم مع المتوكّل الذي كان يعشق جارية فكلّمها يومًا فأجابته بشيء أغضبَهُ فَرماها بمخدّة فأصابت عينها فأثّرت فيها فبكت وبكى حتّى أصَابتهُ حُمّى فأمر بإحضار عليّ بن الجهم. ولمّا حضَر بين يديه قال له : قل يا عليّ في علّتي هذه شعرًا يبيّن أنّ الطّبيب ليس يدْري ما بي. فأنشد :
تنكّرَ حَــــــــــــالَ عليَ الطبيبُ وقــــال أرى بجسمِك مَا يُريبُ
جَسَستُ العِرقَ مِنكَ فَدَلَّ جَسّي عَلى أَلَـمٍ لَـــــــــــهُ خَبَرٌ عَجيبُ
فَمــا هذا الَّذي بِكَ هاتِ قُل لي فَكــــــــــانَ جَوابَهُ مِنّي النَحيبُ
وَقُلتُ أَيـــا طَبيبُ الهَجرُ دائي وَقَلبــــــي يا طَبيبُ هُوَ الكَئيبُ
فَحَرَّكَ رَأسَـــــــهُ عَجَباً لِقَولي وَقـــــــالَ الحُبُّ لَيسَ لَهُ طَبيبُ
فَأَعجَبَني الَّذي قَد قـــــالَ جِدّاً وَقُلتُ بَلــــى إِذا رَضِيَ الحَبيبُ
أَلا هَل مُسعِدٌ يَبكــي لِشَجوي فَإِنّي هــــــــــــــائِمٌ فردٌ غَريبُ
وهذه قصّةٌ طرفَاها الخليفة العباسيُّ المأمون وإحدى مَحْضيّاته، قال الرّاوي : بينما كان محمد بن زبيدة الأمين اذ مرّ بجارية لهُ سكرى وعليها كساء خزّ تجرّ أذياله، فاسْتَنْجَزَ منها وعْدًا سابقًا فقالت : يا أميرَ المؤمنين أنا على ما ترى ولكن ليكُنْ غدًا، فلمّا كان من الغد مضى إليها يستنجزُها الوَعْد فقالت : يا أمير المؤمنين أما علمْتَ أنّ كلام الليل يمحُوه النّهَارُ ؟
ولمّا أحسّ المأمون بأن آخر كلام الجارية يمكن أن يكون شطْرَ بيت شعري سأل : من بالباب من شعراء الكوفة ؟ فقبل له مُصْعبُ والرقّاشيّ وأبو نواس فأسر بهم فدخلوا عليه فلمّا جلسُوا بين يديه قال لهُم ليَقلْ كلّ واحد منكُم شعرًا يكونُ آخرُه “كلامُ الليل يمحوهُ النّهار”
فانشد الرّقّاشي :
متى تَصْحُو وقلبُك مستطـــــارُ وقـــــــدْ مُبعَ القَـرَارُ فلا قرَارُ
وقد تركَتْك صَبًّا مُسْتَهَــــــــامًا فتـــــــــاةٌ لا تــزورُ ولا تُزارُ
إذا استنجزَتَ منها الوعْدَ قالت كلام الليل يمحوهُ النّهـــــــــارُ
ثم قال مُصعب :
أتعْذلنــــــــــي وقلْبُك ستطارُ ؟ كئيبٌ لا يقرُّ لـــــــــــهُ قرَارُ
بحبّ مليحَــــة صادَت فؤادي بألحاظٍ يخالطُهــــــــا اخوِرَارُ
ولمّــــــــا أن مددتُ يدي إليها لألمِسَهـــــــــــــا بدا منهَا نفارُ
فقلتُ لها عدينـــــي منك وعدًا فقـــــــالت في غدٍ منك المزَارُ
فلمّا جئتُ مقتضيًا أجابت كلام الليل يمحوه النّهارُ
نلاحظُ أنّ أبيات الرّقّاشي كانت في العموميّات بينما فصّل مُصْعب الحكاية حتى كأنّه كان معهُمَا وبهذا التدرّج يمكن أن نتصوّر أن مقطوعة أبي نُواس ستكون أوْغَلَ في التفْصيل لعلّه كان أبْرَعَ صناعَةً أو لعل الإخباريّين انحازوا لأبي نواس لقربه الشديد من الأمين فوضعوا هذا الخبر
قال أبو نواس :
وخَوْد أقبَلت في القَصْر سكرى ولكنْ زيّن السّكْرَ الوقارُ
وهز الريح أردافاً ثقــــــــــــــــالا وغصناً فيه رمان صغــــــــار
وقد سقـــــط الردا عن منكبيهــــا من التخميش وانحــــــل الإزار
وقُلتُ الوَعْدَ سيدتـــــــــي، فقالتْ كلامُ الليـل يمحـــــوهُ النــــــهارُ
فصَاحَ الأمين ويحكَ يا أبا نواس ! أكنت معنًا ومطّلعًا علينا ؟ فقال يا أمير المؤمنين قد عرفتُ ما في نفسك فأعربتُ عنّا في ضميرك. فأمَرَ له بأربعة آلاف درهم ولصاحبيه بمثلهما
وسنمدّكم بطرائف أخرى من تراثنا الأدبي الجميل ؟
رضا بسباس