الحجر الصحي في رمضان بين هاجس كرونا وعصف التلفزة
لست ممن يحترفون البكاء على الأطلال وان فعلت فان ذلك من باب مكره اخاك لا بطل، ذلك ان الاطلال اما ان تكون ذات شان رفيع لا يقوى معها الناقدون على النيل من شموخها، واما ان تكون بلا عمق فيُعالَج امرها كمن ينفض التراب لكشف المستور. وليس لي في الحالتين ناقة ولا جمل.
اعترف بداية انني لم اكن-عادة- من المدمنين على متابعة الانتاج التلفزي في شهر رمضان بالخصوص فلا احسب انهم انتجوا ما انتجوه ليكون برمته زادا لكل مشاهد، ثم اني اعلم انه ما من احد يملك من صلابة الاعصاب ما يسمح له بهضم ذلك الكم من التفاهات دون ان يفور دمه في دماغه.. اني بهذا الكلام لا احمل المسؤولية لأي كان، انما انا ألهث وراء الجودة وكفى.. اريد ان تكون التلفزة في مكان يليق بانتسابها لهذا الوطن مقارنة بمثيلاتها في الدول الشقيقة. فإذا كان شهر الصوم مناسبة لتتويج الحركة الابداعية فلتكن البداية من حيث ينتهي شهر رمضان الحالي ولتعط الفرصة لفريق عمل متكامل ولنحاسب الجميع في آخر المطاف ولتكن المكافآت على قدر العطاء. ان الانتاج الابداعي الذي يقدم في التلفزة في شهر رمضان غزير غير انه لا يرتقي منه الى الحرفية المرضية الا النزر القليل. اننا عندما نسوق هذا الراي لسنا من زمرة المتشيعين لكل ما هو مستورد بدليل اننا عندما نصدم بما في هذه القناة او في تلك من البضاعة المستوردة فاننا نقنع من الامر بغلق التلفاز حتى لا يعظم لدينا الاحساس بالغبن.
ان المشاهد اذا لم يجد ذاته في سياق العمل الابداعي الوطني لا يمكن ان يرضى عن خلافه مهما كان حجم تمويلاته وكانت درجة حرفية مبدعيه وطرافة احداثه.. واذا كان المشاهد يتنكر لكل ما لا يرضيه فتلك بداية الوعي الانساني في الفرد وما اجهزة الاعلام الا وسيلة لمزيد من السمو بالانسان. فاذا كانت المادة التي تبث لا تستطيع ان تشغل ذاكرتنا عن استحضارها الدائم لمبدعين سبقوا في التاريخ فانه محكوم عليها بالفشل، ان بعض السخافات التي تجعلك تنحني اجلالا للحاج كلوف والزهرة فائزة، لمختار حشسشة وعبد العزيز العروي، للسيدة عليا والعم راشد…. انما تثير فيك الاشمئزاز، عندما تعلم ان عبد العزيز العروي كان يختار كلماته من قاموس يدرك انه سيكون خط وصل بين التونسيين رجالا ونساء فيغزو شمال البلاد وجنوبها حضرها وريفها المتعلمين منهم والاميين. وأنه كان ينمق حدثيه بشكل لا يحرج احدا بحضرة أحد- عندما يحصل ذلك لا تملك الا ان تندب حظك وانت ترى بام عينيك كيف اصبحت العبارة تصفعك بلا رحمة ولا شفقة تنطلق من كوم قاذورات بلا رقيب لتستقر على سطح الشاشة فتسد عليك انفاسك وتصيبك في طبلة اذنك. وفيما كانت تلفزة العروي تقدم للمشاهدين زادا طاهرا يستعيضون به عن زادهم السوقي- اصبحت تلفزة سنين دائمة تدعو للتهريج الرخيص بعبارة ما انزل الله بها من سلطان.. ان تلك العبارات والإيماءات السوقية الخليعة والاباحية تقعد بالتلفزة عن اداء واجبها في صقل المواهب وفي السمو بالذوق العام.
اذكر للتاريخ وبامانةٍ وشرفٍ اني كنت مرة اتابع احدى محطات الاذاعة المصرية في زمن كان فيه الخلاف قائما بين بورقيبة وعبد الناصر وكان البرنامج الاذاعي بعنوان “فنجان شاي” اذكر ان منتج البرنامج استدعى الشاعر بيرم التونسي يحاوره عن رأيه في موسيقى الكلمة في اللغة العربية فاجاب بيرم بما معناه ان لكل كلمة مدلولا لغويا ونبرة موسيقية مخصوصة وان اللهجة هي التي تضفي على العبارة شحنة موسيقية اضافية. واستدل يومها بعبارة [القمر] فزعم ان كلمة قمر في اللغة ذات نبرة موسيقية مخصوصة فاذا نطق بها المصري زادها شحنة قوية من لهجته فينطقها (أَمَرْ) اما اذا نطق بها المتكلم بالجنوب التونسي مثلا فانه يجردها من موسيقاها فيقول (إِقْمَرْ)[gmar].
لا اريد هنا ان احكم لبيرم ولا عليه فالرجل مبدع بلا جدال وقد اصبح اليوم في دار الحق- ولكني احببت ان تتمسك تلفزتنا برسالة سامية ولا شيء غير ذلك.
توفيق اللوومي