الشاعر الكبير المنصف المزغني ينعى الأسطورة حمادي العقربي
ذهاب حمّادي العڤربي
1-
كان حمّادي العڤربي لاعب كرة قدم تونسيّا استثنائيا ، ذكيّا ، صموتا ، خجولا ، ومفاجئا لغريمه الرياضي على الملعب ، ومضيئا ، مثل برق بلا مطر ،،، غير التصفيق الحارّ وهتاف الأنصار .
2-
في صفاقس ،المدينة ، في ( باب بحر ) في اواسط السبعينات ، كنت شبابا،أجلس الساعات الطوال مع صديقي الكبير علي المهذبي ،، نجلس في ( مقهى العمّوص) وكنا نرى حمّادي ، وهو يعبر ( ساحة ماربورغ) ، بخطى سريعة واثقة ،، يكاد لا يرفع عينيه عن الارض ، وكأنّه يستشعر الخجل من ملاحقات عيون جمهوره العاشق .
هل كان يكفيه أن يرفع رأس النادي ، ويزيد في نسبة عشاقه . يمشي وحيدا غير مصحوب ، في أغلب الاحيان، لا يلتفت ،
وكأنّه يخجل من أن يتّهم باستجداء المديح لادائه ، واهدافه ، ويتحاشى حتى نظرات الجمهور السريّة منها والمعلنة .
أو كأنّه يريد ان يتأكّد من أنّ الشارع هو : شارع ، وليس ملعباً .
3-
و حمّادي العقربي قليل الكلام ، ولكن في وجهه البسّام تجاعيد من آثار الفرح الشعبي والحزن الخفيّ في عينيه .
كان متواضعا ، نعم ، ولكنه، كأي فنّان حقيقي ، كان يعرف حجمه ، وموقعه الوطنيّ والعربيّ ،
ويدرك أنّه الفارس ، صاحب الهدف المنتظر ، أو المنسّق الخفيّ من أجل هدف في مقابلات النادي الرياضي الصفاقسي أو الفريق الوطني .
لم يعرف الغرور الذي استشرى في نفوس من كانوا أقلّ منه قيمةً و وجاهةً رياضية
4-
لو كان الغرور شخصاً من لحم ودم ، لما وجد في روح حمادي العقربي فرصة للصداقة .
5-
لقد عرف النادي الرياضي الصفاقسي ( ساي ، آس ، آس ) اكثر من لاعب نجم… ولكن النادي قبل حمّادي ، هو غير النادي مع حمادي .
كان عنوانا لمرحلة ، ولقد شكّل مع اللاعب الفقيد ( محمد علي عقيد ) ثنائيا من : أخوة وحبّ في : معركة الحياة ، وفي ساعة اللعب .
6-
من لم يتحمّس للنادي الرياضي الصفاقسي ، أو حتى من يكره هذا النادي( والحبّ ليس فريضة ) فشل في ان يواصل الكراهية اذا كان هذا حمادي في الملعب و اللعبة .
حمّادي العقربي ، كان ظاهرة محبّبة للنادي المحبوب من جلّ صفاقس ، بل ، وجلب الحبّ والتعاطف مع هذا النادي العريق العتيق حتى من خارج صفاقس . كان لاعبا عابرا لفريقه .
7-
– هل فشل حمّادي العقربي في ان يكون له أعداء من غير انصار النادي ؟
– نعم ، فشل .
8-
صار حمادي ظاهرة وطنية حين كان ضمن الفريق الوطني في مشاركاته الدولية ،
وفي العاب كأس العالم لكرة القدم ، حين ترشحت تونس عام 1978 ، بقيادة الممرن عبد المجيد الشتالي .كان الطقس السياسي كئيبا في حكومة الوزير الاول الهادي نويرة وتجربته السياسية التعاقدية الدامية مع الاتحاد العام التونسي للشغل انتهت بيوم الخميس ( الاسود ) في 26 جانفي1978 بالدماء والسجون للقيادات النقابية والصحافيين من اهل الرأي المخالف .
وكان الحزن مخيما في اكثر من بيت ، ومقص الرقابة لا يبقي في الصحافة على حرف أخضر ، او فكرة من خارج السياق حدّ الاختناق ،،،
وفي صيف تلك السنة ،كانت مشاركة تونس الرياضية في عرس كرة القدم العالمية نقطة من نقاط
الفرح الشعبي العارم
في ذلك الليل السياسي اللئيم البهيم المقيم .
وكان الفريق الوطني مؤلفا من خيرة ما انجبت كرة القدم التونسية ، امثال حمادي العقربي وتميم بن عبد الله ، ومحمد علي عقيد وطارق ذياب ، وغيرهم، و حضور حمادي العقربي شكّل نوعا خاصا من الأمل ، لا في الفوز بكأس العالم ! ولكن في … شيء …في هدف … في كسب قليل من هذا الحضور الكثير في المحفل الأمميّ الكبير ،في بلاد الارجنتين ايام الدكتاتورية السياسية والديموقراطية الرياضية في عهد الجنرالات القادمين على ظهور الدبابات …
لم يكن حمادي العقربي نجما تونسيا فقط ، بل كان رقما برتبة نجم عربي وافريقي معروف ومهاب، ويقرأ له اللاعبون ضد الفريق الوطني التونسي كل حساب في المستطيل الاخضر .
9-
من لا يتحمس للنادي الرياضي الصفاقسي ، من انصار الفرق التونسية الاخرى ، كان لا يخفي حماسه لحمادي العقربي ، من التونسيين والعرب من عشاق و مجانين كرة القدم .
وحتى الذين هم في مستواي من اللامبالاة بكرة القدم ، كانوا يحرصون على الفرجة على لعبة كرة القدم ، اذا كان حمادي العقربي في اللعبة لأنّه مشاركاته تحوّلها الى فرجة لذيذة ، وإلى فرحة جماعية ، فقد بات حضور العقربي سبباً و مصدراً لتأمين وقت قصير من البهجة في الفرجة .
لان أداءه كان ذكيا في ادارة الكرة بين ذهنه و قدميه عند استقبال الكرة والمراوغة والتمرير والتهديف وتحويل المقابلة إلى طقس من السعادة ،،حتى عندما لا يكون هناك فوز .
10-
وفي الشارع كان حمادي العقربي مواطنا شعبيا خجولا ، وكأنّه يعتذر للناس ،
وكأنّه يقول لمحبّيه في الشارع الذين يحترمونه، ( شكرا ، لقد قمتُ بما رأيته واجبا عليّ )
وحمادي يعرف ان الناس يشيرون إليه ، ويتهامسون بعبارات الحبّ حول شخصه
وحين يمشي حمادي في الشارع ، تراه ، وكأنّه يبحث عن كرة ،،، وكانت روحه مرفوعة الى الأعلى، وكأنه يقول لعشاقه :
( انا ، كما انا ، لا تحرجوني بالمديح ، شكرا لكم من القلب . الى اللقاء في الملعب ، الشارع ليس ملعبي) .
11-
كان الفقيد فنانا مناورا في الملعب المعشب ،
متواضعا في شارع الحياة ،
وسيبقى ، في العيون ، نموذجا للصبر المثابر والتواضع الباهر ، والأداء الساحر
وسوف يحيا مثل أيقونة صفاقسية تونسية عربية افريقية
و تبقى صورته في اسرته الصغيرة كبيرة
وفي اسرته الكبيرة كبيرة ايضا
ويواصل البقاء في الذاكرة الحية للرياضة التونسية .
لأن حمادي العقربي من أنقى معادن الرجال ، ومن سلالة الأبطال .
12-
ذهب حمادي العقربي ولم يذهبْ ،
الأجساد تُغْلبُ
وأمّا الأرواح فلا تُغلَب
13 –
ورحم الله الكريم حمّادي العقربي
***
منصف المزغنّي ، تونس، في 22 اوت 2020