بني وطني
لم أستطع هذه الليلة النوم قبل كتابة مقال عن معركة الجلاء، رغم احساسي بالإجهاد و التعب بسبب داء كورونا اللعين الذي ابتليت به هذه الأيام.
لا أريد كتابة مقال تاريخي حول أحداث الجلاء، فيمكن أن أكتب حول هذه المعركة كتابة تاريخية معمقة في مناسبة أخرى. أما ليلة الإحتفال بذكرى الجلاء، فقد خيّرت أن أكتب عن هذا الحدث بأسلوب مختلف، تغلب عليه المشاعر الوطنية و الإحساس المفعم بالإنتماء لهذا الوطن العزيز. لقد اخترت بيتا من أغنية ” بني وطني” كعنوان لهذا المقال ، و ذلك لأن هذه لأغنية تعبر بصدق عن المشاعرالوطنية التي عاشها التونسي في تلك الفترة الحارقة من تاريخنا المعاصر.
صحيح، بأن فرنسا قد قتلت مئات التونسيين و ربما الآلاف، الذين هبوا بكل تلقائية لتحرير بنزرت من القواعد الإستعمارية، و هي لم تخسر سوى 27 جنديا. و صحيح أيضا بأن الحبيب بورقيبة قد اتخذ قرارات خاطئة عندما زجّ في هذه المعركة بالمدنيين الذين ليست لهم أي خبرة في السلاح و في الحرب ، مما شوش على الجيش و الحرس التونسي الذي كان يتكون من المقاومين التونسيين المتمرسين، مما أفسد عليهم خططهم و تركيزهم في هذه المعركة.. و مع ذلك، فإنّ الخسائر التي تكبدها التونسيون قد أدت في آخر المطاف إلى الإنتصار و إلى جلاء آخر جندي فرنسي عن التراب التونسي يوم 15 أكتوبر1963.
رغم أنّ الحبيب بورقيبة ليست له أي خبرة في المعارك الحربية، لكنه كان قادرا على ربح الحرب بفعل الدهاء السياسي و العمل الديبلوماسي المتقن، بمعونة زعماء وطنيين أكفاء مثل “المنجي سليم” و “الباهي الأدغم” و “الصادق المقدم” و “محمد المصمودي” …
إذن، من حقنا أن نفرح بهذا الإنتصار الباهررغم الخسائر الكبيرة، و من حقنا أيضا أن نحتفل بهذا العيد العظيم الذي أعتبره أهم من عيد الإستقلال؛ فلا قيمة للإستقلال إذا كان المحتل لا يزال مسيطرا على أهم نقطة استراتيجية في البلاد. ألم يقل “جول فري” Jule Ferry بإن بنزرت سبب كاف لاحتلال تونس. و لذلك فإنّ الحلف الأطلسي الذي كانت فرنسا عضوا فيه لم يكن يرغب في التنازل عن بنزرت نظرا لموقعها الإستراتيجي المتميز جنوب البحر الأبيض المتوسط، رغم محاولات الزعيم الحبيب بورقيبة مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل اقناع فرنسا على الجلاء من بنزرت.
للأسف، بعد “الثورة” لم نعد نحتفل كما ينبغي بأعيادنا الوطنية، و لم نعد نذكّر أطفالنا و شبابنا بالأحداث الوطنية الهامة و بالتضحيات التي قدمها التونسيون في سبيل تحرير الوطن. فهذا الإستهتار الذي نعيشه الآن بتاريخنا الوطني سوف يؤدي حتما إلى اضعاف الشعور بالإنتماء لهذا البلد لدى الأجيال االصاعدة. و ذلك هو الهدف البعيد الذي كان يخطط له الإستعمار الفرنسي منذ احتلاله لتونس سنة 1881.