كتاب زمن الأبيض والأسود – التّوارخ والتآريخ- لعبد الواحد المكني : التاريخ يتجمّل في الشكل وفي المضمون
عرفنا عبد الواحد المكني أستاذ التاريخ المعاصر والانتروبولوجية التاريخية في كتابات
تاريخية متنوعة تستند إلى دقة المصادر والمراجع والمنهجية الأكاديمية والحرص على
الصرامة العلمية وعلى هذا المنوال جاءت مؤلفاته المعروفة منها “الحياة العائلية بجهة
صفاقس 1875-1930″، ثم “الأصل والفصل في تاريخ عائلات صفاقس”، “فرحات حشاد
المؤسس الشاهد والقائد الشهيد”.
الأمر يختلف في آخر إصداراته عن دار محمد علي الحامي : “زمن الأبيض والأسود – التّوارخ
والتآريخ” . هذه تجربة جديدة يخوضها الباحث الذي لا يترك تخصّصه التاريخي ولكنّه يرحّل
التاريخ إلى الأدب ويكتبه على نار هادئة مستفيدا من ثقله وخبرته ومن قاعدة معارفه
التاريخية في الانتروبولوجيا والسسيولوجيا والجغرافيا….
في هذا الكتاب لا يهتم عبد الواحد المكني بالدول والحكومات والسلاطين والأمراء، بل يكتب
عن المغيّبين والمنسيّين في التاريخ المحلي وكأنه يطرح “قاعدة العدل” في إعادة كتابة
التاريخ، وإعادة بناء صورة الماضي من تاريخ السلطة إلى تاريخ من لا سلطة لهم. ولهذا فهو
يتناول في هذا الكتاب المهمّشين في بساطتهم وخرافاتهم وتراثهم اللامادي ويتتبع تفصيلات
أيام طفولته وبداية شبابه (في جبنيانة التي لا يذكرها ولا يفصح عنها) بشغف وكأنه يكتشف
في كل نص سرا، مما أضفى المزيد من الواقعية التاريخية على الأحداث الجارية زمن
الأبيض والاسود أي زمن الكاميرا والتلفزة بدون ألوان. ومن وراء ذلك يدعونا الباحث عبد
الواحد المكني إلى تصحيح رؤيتنا للماضي ويمدّنا بمفاتيح موضوعية وعادلة لتحليل التاريخ
بلغة الضاد وبمفردات الحياة اليومية للناس(زينة وعزيزة، الصوردي)…
زمن الأبيض والأسود كتاب في التحقيق التاريخي المتشابك مع الأدب بذل فيه المؤلف جهدا
لافتا في اكتشاف سلّم البحث التاريخي الذي ينطلق من المحلّي ليضفي بعدا وطنيا على الهوية،
ولهذا نجد في الحفل الأول لتقديم هذا الكتاب 3 أساتذة من عالم الأدب خالد الغريبي والمختار
الخلفاوي (كاتب وباحث في الأدب ومعلّق صحفي) ونورد الخزري(باحثة في اللسانيات،
وعضو مخبر المناهج التأويلية) إلى جانب أستاذ التاريخ فتحي العايدي
وإذا كان مفتاح العلم السؤال والتفكير مصدره فإن ما يميّز هذا الكتاب أنه يقدّم حقائق ثابتة لا
تقبل الشك بأنه يمكن دحرجة التاريخ التقليدي، وإشاعة متعة التاريخ تحت عناوين جذابة عن
طريق بوابة الأدب وحلاوة النص. ولا شك أن ذلك يتطلّب تحريك آلة السؤال واستنطاق
الأحداث بأريحية وبقلم أدبي/ صحفي شيّق في تماس مع التاريخ. ويبدو أن هذا “التحقيق
والنظر” أعطي للباحث الأكاديمي المحترف جرأة أكبر وظلالا أغنى ومخيّلة أوسع ونفى
بالتالي عن المؤرخ “حق النسيان” لسيرورة تاريخية أخرى. وهو يلتقي في هذا المسار مع
المؤرّخين الجامعيّين الهادي التيمومي وفتحي ليسير بما يتصل بالتاريخ الحيني.
والكتاب في المحصلة نظرة جديدة على القوس المديد للتاريخ، يزخر بالأفكار المثيرة وهو
عبارة عن بانوراما من النصوص المتكاملة يتناول فيها الباحث التاريخ من زاوية مختلفة
تغذي العقل وتعمّق الثقافة وتحفظ التاريخ في ذات الوقت، مما يجعل هذا المؤلف إضافة مهمّة
للمكتبة التاريخية بصفاقس، وللباحثين ليكتبوا عن بلدات أخرى مثل الصخيرة وعقارب
والحنشة وحتى عن تاريخ الأحياء والأنهج…
رضا القلال