الاقتباس من القرآن في النثر والشعر
القرآن الكريم هو أحلى الكلام وقمّة البلاغة والبيان لذلك تنافس البلغاء في اقتباس جليل معانيه وجزيل ألفاظه وزينوا خطاباتهم بعبارات من مُحكم آياته، والحق أنّه لا يمكن لشخص أن يمسك بناصية العربيّة إلا بمدى ما يتمثّله من أساليب القرآن العظيم فلا يُقوَّم له لسانُ ولا ينقادُ له بيان إلاّ بمُفصّل آياته ومُحكَم عباراته. ألا ترى أنّ الكثير من الآيات القرآنيّة قد أصبحت تُضمّن في الكلام وفي الرسائل والخطب لأنّها تجري مجرى الأمثال من ذلك مثلا أننا نستحضر قوله تعالى :” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (الزمر 9)
للتأكيد على أحقيّة العُلماء بالفضل دون الجَهَلَة. أو قوله تعالى :” فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ” (الرعد 17) وكثير من الآيات الكريمة يُستَشهَدُ بها للتعبير عن الاغترار بالمظاهر منها :” يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ” (البقرة 273) أو في سياق آخر :” تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى” (الحشر 14) أو :” وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ” (الكهف 18)
وفي بعض الأحيان قد يستعمل أحَدُنا آية قرآنيّة في كلامه وهو لا يدرك أنّها من القرآن كأن يَقول مثلا هذا طعَامٌ “ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ” (الغاشية 7) أو أن ننعتَ جاهلا مُتَعَالِمًا بقوله تعالى :” كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا” (الجمعة5) هذا بالاضافة الكثير من الأدعية التي جرت على الألسن ومصدرها القرآن الكريم وقد وردت في بعض الأشعار تضمينات قرآنية. ولابُدّ من الاشارة الى أنّ بعض المقاطع من الآيات قد رُكّبت على نحوٍ يجعلها في وزن بعض التفعيلات العروضيّة مثل :” إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا…” (الفتح 10) وهي من تفعيلة الكامِل (مُتَفَاعِلُنْ) أو :” لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا…” (آل عمران 92) من تفعيلة الرَّمَل (فاعلاتن – فاعلاتن – فاعِلُن) وكذلك بنفس الوزن :”.. لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا” (النبأ 40) وغيرها. وقد وضع البلاغيون شروطا وحدودًا لتضمين القرآن في الكلام. قال جَلال الدين السيوطي في كتابه (عقود الجُمان في علم البَلاغة والبيان) :”وقد اشتهر عن المالكيّة تحريمه وتشديد النكير على فاعله. وأمّا أهل مذهبنا – يعني الشافعيّة – فلم يتعرّض له المتقدّمون ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس في أعْصَارهم وسُئل عنه بعض الشيوخ فأجازه واستَشهد بطائفة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال مأثورة عن الخلفاء الراشدين وأن فيها اقتباسًا من القرآن العظيم وهذا يدلّ على جوازه وشايعه في هذا الحكم عددٌ من العلماء والباحثين” ويقسّم علماء البلاغة الاقتباس الى ثلاثة أقسام على أساس معياريّ أخلاقي : أوّلها محمود مقبول وثانيها مباح مبذُول (ليس جيّدًا) وثالثُها مردودٌ مرذول حسب تعبير ابن حجّة الحمَوي في (خزانة الأدب). فالمحمود المقبول : يكون في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه. والمباح المبذول : يكون في الغزل والقصص والرسائل ونحوها. والمردود المرذول على ضربين أحدُهما ما نسبُه الله تعالى الى نفسه كما قيل عن أحد بني مروان أنّه وقّع على رقعة فيها شكاية من عُمّاله (وُلاَتِه) :” إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثم إنّ عَلينا حسَابهُمْ” (الغاشية25-26) وثانيهما تضمين آية كريمة في معرض هزل أو سخف كقول أحدهم في مطلع مدحيّة لأحد الأمراء :
قمت ليل الصدود إلا قليلا *** ثم رتّلت ذكركم ترتيلا
مَسْمَعي كلَّ عن سَماعِ عَذُول *** حين ألقى عليه قولا ثقيلا
والحقيقة أن الشاعر لم يقصد الإساءة الى القرآن بل إنّه أراد أن يُكسِبَ قوله جمالا وجزا له بالتضمين القرآني
ومن لطائف التضمين ما تجلّى في صِناعَة أبي الفضل الميكالي (ق 5 هـ) واعظًا وملتزمًا ما لا يلزم في جِناس القافية :
خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بعُرْفٍ كما *** أمِرْتَ وأَعرِضْ عنِ الجاهِلينْ
ولِنْ في الكَلامِ لِكْلِّ الأنامِ *** فُمستَحْسَنٌ مِن ذَوي الجاهِ لِينْ
وهذه قصيدة استشهدت بها كتب البلاغة العربيّة باعتبارها نموذجًا من الاقتباس اللطيف الذي يضفي على القول طلاوة وجمالا وهي للشيخ الصوفي الأندلسي أبي مَدْين التلمساني (ق 6 هـ) يقول مزّيّنًا كلامهُ بعبارات من سورة مريم : (من الخفيف)
لستُ أنسى الأحبابَ ما دمتُ حيّا *** إذ نوَوْا للنوى مكانا قصيّا
وتلوا آيةَ الوداع فخرّوا *** خيفةَ البين سُجَّدًا وبُكيًّا
وبذكراهمُ تسيحُ دمْعِي *** كلَّما اشتَقت بكرةً وعشيّا
وأناجي الإلاه من فرط حزني *** كمناجاةِ عبدهِ زكريّا
واختفى نورُهُم فناديتُ ربّي *** في ظلامِ الدجى نداءً خفيًّا
وهنَ العظمُ بالبعاد فهَب لي *** ربّ بالقرب من لدُنكَ وليًّا
واستجب في الهوى دعائي فإنّي *** لم أكن بالدعاء منك شقيًّا
قد فَرى قلبي الفراق وحقّاً *** كان يومُ الفِراقِ شيئاً فريًّا
ليتني متُّ قبل هذا وأنّى *** كنت نسْيًا يوم النوى مَنسيًّا
ونلاحظ كيف أتقن أبو مدين صناعة الاقتباس خاصّة عندما تصرّف بالتقديم والتأخير خدمة لوزن البحر الخفيف.
وهذه قصة امرأة لا تتكلّم إلا بألفاظ القرآن ويبدو أنها قصة وضعها الرّواة على سبيل التعليم وقد أوردها الأديب المصري السيّد أحمد الهاشمي (ق19 م) في كتابه (جواهر الأدب) :”قال عبد الله بن المبارك خرجت حاجّا الى بيت الله الحرام فاعترضتْ سبيلي عجوز فقال السلام عليكم فقالت :”سلامٌ قولا من ربّ رحيم” فقلت يرحمك الله ماذا تصنعين في هذا المكان قالت :”ومن يُضْلِل الله فَلا هَاديَ لهُ” فعلمت أنّها ضالّة عن الطريق فقلت لها أين تريدين قالت :”سُبحَان الذي أسْرَى بعبْده ليلا من المسجد الحرام الى المسجدِ الأقصَى” فعلمتُ أنها قضت حجّتها وهي تريد بيت المقدس فقلت لها منذ متى وأنت في هذا الوضع قالت :”ثلاث لبالِ سويًّا” فقلت ما أرى معك طعامًا فقالت :”هو يُطْعمُني ويَسْقِين”…ثم أنخْتُ ناقتي لتركب فقالت :”قل للمؤمنين يغضُّوا من أبْصارهم” فأخذت زمام الناقة وجعلتُ أُسرع وأصيحُ
فقالت :”واقصُدْ في مَشْيكَ وأغْضُضْ من صوْتكَ” ثمّ سكتُّ ولمْ أكلّمها حتّى أدركنا القافلةَ فقلت هذه القافلة فمنْ لكِ فيها ؟ فقالت : “المالُ والبنُونَ زينة الحياة الدّنيا” ثمّ جاء أبناؤها فقالت لهم :”فابعثُوا أحدكم بوَرِقكُم هذه الى المدينة فلينظر أيُّها أزكى طعامًا فليأتكم برزق منهُ” فمضى أحدُهم فاشترى طعاما فقدّمُوه بين يَديّ فقلت الآن طعامُكُم عليّ حَرام حتّى تُخبروني بأمرها. فقالوا هذه أمُّنا منذُ أربعين سنة لم تتكلّم إلاّ بالقرآن مخافة أن تزِلّ فيسخطَ عليها الرّحمان فقلت :”ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم”
نشير الى أنّ الذين يضمّنُون أقوالهم عبارات من القرآن ليسوا مقلّدين للقرآن لأنه لا قِبَلَ لهم بتقليده وإنّما هم يزينُون خطابهم بأنوار عباراته إمعانا في تجويد القول وأعود الى تضمين القرآن في الأشعار فقد كنّى ابن الرومي عن رجل لئيم لا نفع لديه قائلا (من الهزج)
لئن أخطأتُ في مدحي *** كما أخطأت في منعي
لقد أنزَلتُ حاجاتي *** “بوادٍ غير ذي زرع”
ما قَصدَهُ ابن الرّومي في قوله :”بوادٍ غير ذي زرع” ليس هو المقصود في أصل النصّ القرآني :”ربّنا إني أسكنْتُ من ذُرّيّتي بوادٍ غير ذي زرْعِ عند بيتِك المحرّم” فابن الرّومي قصد الى اللؤم وانعدام النفع مستعملا العبارة على المجاز بينما استعملت العبارة في النصّ القرآني على الحقيقة وهذا يؤكد لنا أن الاقتباس يمكن أن يكون باللفظ دون المعنى وهو ليس مردودًا ولا هزلا كما عدّهُ بعض القُدماء. ومن باب اقتباس ألفاظ القرآن ما ينسب الى الصاحب بن عيّاد حيث استعار شيئا من القرآن وجعلهُ بيتًا كاملا :
كتب المحبوب سطْرًا *** في كتاب الله موزُون
“لن تنالوا البرَّ حتّى ***تُنفقٌوا ممّا تحبّون” (آل عمران 92)
ولا يعني هذا أنّ كلام الله من الشعر ولكن قد يصادف أن يكون بعض الكلام العربي موزونًا دون أن يقال انه من الشعر، وتنزّه كلام الله أن يكون شعرًا
وهذه عبارة قرآنية في سياق غزلي في مقطوعة للأحوص (ق 2 هـ)
إذا رُمتُ عنها سَلوةً قال شافعٌ *** من الحبّ ميعادُ السرور المقابرُ
ستبْقى لها في مضْمَر القلب والحشا *** سرائرُ ودّ “يوم تُبْلى السرائر”
(طويل)
والأحوص قد استعار من القرآن العبارة الأخيرة فبدت غير متنافرة مع بقيّة الكلام.
ومن غُرر الشعر العربي ما قاله أبو الحسن علي الحصري القيرواني في رثاء ابْنه عبد الغني فضمّن الكثير من العبارات القرآنية (من الطويل)
أعبْدَ الغنيّ ابني الى ربك الرّجعى ***فكُن شافعي عند الذي أخرج المرعى
فقدْ أوثقتني السيّئاتُ وبَزَّني *** مُغارُ مُلمّات أثَرن به نقْعَا
وأورين قدحًا بالجوى في جوانحي *** وفرّقن دمْعي أنْ وسَطْن به جمْعَا
وكنت كمثل الزرع أخرج شصْأهُ *** فآزره لكن أصَاب الرّدى الزّرْعَا
وأختم باقتباسات جلال الدين السيوطي صاحب (الاتقان في علوم القرآن) حيث ضمّن شعره الآية :”يا ليتني
)تخذت مع الرسول سبيلا” (الفرقان 27) : (من الكامل)
ان كانت العشاقُ في أشواقهم *جعلوا النسيم الى الحبيب رسولا
فأنا الذي أتلو لهُم :”يا ليتني (كنتُ) اتخذتُ مع الرسول سبيلا
وقد أضاف كلمة (كنتُ) ليستقيم الوزن. كما اقتبس من سورة الفجر مع تغيير طفيف : (من الخفيف)
قدْ بُلينا في عصرنا بقضاه *** يظلمون الناسَ ظُلمًا عمَّا
يأكلون التراث أكلاً لمَّا *** ويحبُّون المالَ حبًّا جَمًّا
والى اللقاء في كلام آخر يضُوعُ أريجُهُ.