ورق التين والزيتون
بعض المواضيع ذات أهمية كبيرة وتحظى باتفاق الأغلبية الغالبة لا من أولئك الدعاة التابعين الناقلين المقلّدين المكرّرين لما ورثوه من السابقين فحسب، بل حتى من الدعاة المفكّرين. تلك المواضيع إذا متّفق عليها في العموم إذا نظرنا إلى لبّها وجوهرها ،أما إذا نزلنا إلى بعض التفاصيل ،فسنفتقد الإتّفاق وسنفقد كلّ الحكمة الكامنة في أصلها وجوهرها.
سوف أنطلق من بعض التفاصيل دون إطناب للوصول بعدها إلى لبّ الموضوع.
في البداية عليَّ إبداء رأيي في الخمار وفي النقاب : بالنسبة للنقاب،فقناعتي أنه لا يمتّ للإسلام بصلة ولا يمكن إن وجد إلا أن يكون استثناء وهو ليس فضلا كما يرى البعض ولا يندرج إذا أصرّينا على ربطه بالدين إلا ضمن الغلوّ بصفة عامّة ويكفي أن نذكر أن التنقُّب في الحج مخالفة تستوجب فدية.أما الخمار أوغطاء الرأس فيستوجب منا أكثر تدقيق.
( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ …..
في خصوص الجزء من الآية : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ،فقد أوّلت بطريقتين:
الأولى : الخمار ذكر عرضيا وهو ينتمي إلى عادات وواقع ذلك العصر وتلك البلاد، والأمر هو تغطية الجيوب وليس تغطية الشعر.
والثانية : لمجرد أن الخمار قد ذكر فهو مشمول ومعنيٌ بالأمر.
وأنا لا أرى ضرورة للإنحياز لرأي دون الآخر ولا فائدة للحسم بل إنني أستوعب بكل أريحية كلا الرأيين خصوصا أن مسألة الستر بصفة عامّة وردت حسب رأيي في سورة النور بأسلوب فيه بعض الضبابية المقصودة والتي تفيد المرونة والكلمات المستعملة يغلب عليها الطابع الذاتي غير التقريري (زينتهن ،ما ظهر،جيوبهن ) مما يتيح قابلية التكيّف مع طيف من الآراء ومع أشكال حضارية متعدّدة.
أمّا وأن المسألة تتّصف بكثير من المرونة في تفاصيلها هذا لا يعني أنها هيّنة والسعة تنطوي على أن الأمر من الأهمية بمكان بحيث كان الحرص على تطويق الجوانب لضمان أكثر حزم وجدية والتمسّك بلبّ الموضوع ألا وهو الستر بصفة عامّة. هذا وقد عرّجنا على جوانب الموضوع تحت عنوان إبداء الرأي وبطريقة تشبه الإفتاء، لننطلق الآن في طرح كليّة الموضوع وبوسائل الفكر والمنطق والعلم.
لبّ الموضوع إذا هو الستر بصفة عامّة والحقيقة أن المسألة كما ينبغي الخوض فيها وكما يطرحها القرآن الكريم ذات وجهين اثنين لا يصحّ الإستغناء عن أحدهما : الإلتزام بلباس ساتر(خصوصا من جانب النساء)،والغضّ من البصر (خصوصا من جانب الرجال).
الفكرة السائدة والمتداولة حول الحكمة من ذلك هي بالطبع تفادي الإغراء والإثارة الجنسية التي تأتي في إطار غير مشروع فتقرّبنا من الزنا والإنحلال وكل ما ينتج عنهما من مخاطر صحية وتداعيات اجتماعية في غاية الخطورة.
وفي نفس الخط ولكن في اتجاه مغاير،هنالك فكرة غير متداولة ولم يطرحها إلا القلّة من المهتمّين :تفشّي العري (النسبي) وعدم الغض من البصر ينتج عنه التعوّد وإطفاء شعلة الجاذبية بين الجنسين،فالحياة الجنسية الموفّقة لا تبنى أبدا على العري بل على جعل التعرّي استثنائيا بعد الستر المتواصل وهي قاعدة تطبّق ضمنيا في الملاهي الليلية (الستريبتيز) وتذكرني ببيت من الشعر الشعبي يتعلّق بفتاة تلبس ثيابا فاضحا “ما عاد عندها ما تورّي “
تفشّي العري إذا وعدم الغض من البصر يفضي إلى البرود الجنسي ( خصوصا من جهة الرجال ) ويعطّل الحيوية والحركية المقامة على أساس الغريزة والنتيجة المباشرة زوجات غير مكتفيات لا يحظين بالراحة والاستقرار العصبي والنفسي ويأثّر هذا على كل من يحيط بهنّ ويكنّ أقلّ حصانة من الوقوع في الزنا. والرجال بحكم البرود يبحثون عن الإثارة في المشاهد الإباحية فيتعمّق المشكل ويحاولون بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة الوصول إلى الإشباع الجنسي كمثل من يهرول نحو السراب لأن الرغبة الفطرية الطبيعية أساسية ومفصلية للوصول إلى ذاك الإشباع.
والإسلام لا يرمي أبدا إلى قمع الغريزة الجنسية أو إضعافها وتحييدها، بل بالعكس إلى مراعاتها ورعايتها والتحكّم في توجيهها إلى الوجهة المفيدة التي تبعده عن كل الإنحرافات الضارّة وتوصله إلى الإشباع المنشود والمحمود.
وكما هو معلوم ،فالجنس بالنسبة للإنسان ليس مجرّد وسيلة للتكاثر وحفظ النوع بل له دور صحّي في غاية الأهمية يخصّ التوازن العصبي والنفسي للفرد والإنسجام الأسري ومنه المجتمعي والحضاري .
والنشاط الجنسي تطبيقي تشاركي وهو دوري متجدّد كالمدّ والجزر والجوع والشبع بينما المشاهدة ذات نتاج تراكمي تسحب بساط الحماس الفطري ويصبح المشوّق مألوفا فيزول الحافز وتندثر الرغبة ويبقى العطش الخفي والحاجة المكبوتة ونحصل على تخمة دون إشباع .
هذا وفي ركن آخر من نفس المساحة وفي إطار بيت الزوجية بالأخصّ ،فإنه يتعيّن على المرأة أيضا الستر لا لإخفاء المفاتن ومناطق الإغراء فقط ،بل لإخفاء بعض “العيوب “،عيوب تبان عندما يتجرّد الزوج من النظرة الغرائزية فتبرز الدهون الزائدة والدوالي والترهّلات، وعلى هذا الأخير عدم تركيز النظر ما عدا أوقات المباشرة لأنه في غالب الأحيان تكون النظرة المجرّدة من الغريزة مخيّبة للآمال ومنفّرة في بعض الأحيان والتفاعل يكون على أساس ذاتي غرائزي ليست له علاقة وطيدة بالذوق الجمالي العام. أما إذا بدأت الحالة البيولوجية الغريزية يصبح النظر مكوّنا من مكوّنات الجماع فتضمحلّ تلك النقائص الشكلية .
ومن ناحية أخرى فالإنسان من الكائنات القليلة التي لا يتلازم لديها النشاط الجنسي مع دورة الخصوبة وهو قابل كل الأوقات تقريبا للتفاعل ولا ينبغي ولا يمكن أن يبقى في موقع الإستثارة المتواصلة ولا أن يتعوّد ويألف فيجمّد حركة الغريزة بل عليه أن يحدث نسقا دوريا وينظّم فترات للهدنة ،دون ذلك يقع استنزاف وإهدار للطاقة الجنسية الكامنة وإحداث هذا النسق الدوري يحتاج حتما إلى الستر والغضّ من البصر .
رضوان مقديش