“هل تعرفين اسمه؟” سألتْ البروفيسورة ماناتشال
الثلاثاء، 20 سبتمبر. كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة نوشتال. اليوم العودة الجامعية. لم أعش هذه التجربة منذ العام 2013 عندما قرّرت، وأنا مازلت أعيش في تونس، بألاّ أنهي دراستي الماجستير (لسانيات عامّة) وأن أتفرّغ تماما للعمل الصحفي.
بعد 9 سنوات، وجدتني مجدّدا في صفوف الجامعة، في سويسرا هذه المرّة، أبدأ للتوّ دراسة ماجستير في العلوم الاجتماعية اختصاص الهجرة والمواطنة. بعد تجهيزها آلة عرض الشاشة وتثبّتها من عمل الصّوت والصورة بشكل جيّد، أعلنت البروفيسورة آنيتا ماناتشال بداية الجلسة التقديمية لمحاضراتها حول “سياسات اللّجوء”.
حيّتنا البروفيسورة ماناتشال وبدأت في تقديم نفسها. لم تكن تعلم أنّني، بحسّي الصحفي الفضولي، قد بحثت عنها بالفعل عبر جوجل في الليلة السابقة وطالعت كلّ سيرتها الذاتية. كنت أعلم بالتالي أنّها قد أجرت في العام 2008، تربّصا لدى السفارة السويسرية في تونس. وقد أسعدني ذلك بعض الشيء.
أن تكون أستاذتي للفصول القادمة قد مرّت يوما ما بتلك البلاد التي غادرتُ. لعلّها مازال تحمل بعضا من ريحها!
ابتسمت البروفيسورة عندما قدّمت نفسي لاحقا وذكرتُ أصلي التونسي. حدّثتنا عن تجربتها في تونس وأخبرتها بدوري عن سعادتي بذلك. ثمّ بدأت المحاضرة. لم يخطر ببالي أن تعود تونس مجدّدا لتحتلّ موضوع الدّرس. فقد اختارت البروفيسورة أن تضع مقدّمة محاضراتها حول “سياسات اللّجوء” في سياق أحداث الرّبيع العربي.
كانت ردّة فعلي الأولى هي الفخر. شعرت بالغبطة لأن يذكر اسم بلادي مجدّدا، وفي سياق التذكير بأنها كانت محطّة أولى للأحداث والثورات التي هزّت منطقة شمال إفريقيا والشرق الـأوسط منذ العام 2011، وما تزال تداعياتها لليوم تؤثّر على مناطق عدّة من العالم بما في ذلك أوروبا.
ولكن سرعان ما تملّكتني العبرة، فيما البروفيسورة تشير إلى سيدي بوزيد في خريطة تونس على الشاشة. هناك أين قرّر شابّ تونسي ذات 17 ديسمبر 2010 حرق نفسه احتجاجا على المعاملة الأمنية القمعية وعلى بطالته القسرية. “ما اسم تلك المدينة”؟ سألتني البروفيسورة. “سيدي بوزيد”، أجبت وأنا أغالب عبراتي. “وما اسم هذا الشابّ؟ هل تعرفين اسمه”؟ سألت مجدّدا.
كانت الأرض تميد بي. فيما جدران القاعة تضيق من حولي. مرّت في ذهني بسرق البرق صور خاطفة: غرفتي في المبيت الجامعي ببيكين ذات ديسمبر 2010، أجلس وحيدة في الظلام ألتهم ما تعجّ به حسابات التواصل الاجتماعي من فيديوهات للاحتجاجات الشعبية في تونس وللقمع البوليسي، ثمّ صورة صديقتيّ التونسيتين وهما تكادان تكسران باب غرفتي تصيحان مكرّرتين الصرخة الشهيرة “بن علي هرب، بن علي هرب”… صورتي وأنا في مطار تونس قرطاج بعد بضعة أسابيع، تكاد قدماي لا تلمسان الأرض فرحة بأن أشهد بعينيّ أخيرا تونس الثورة، صوري وأنا في زخم المعتصمين في القصبة 1 والقصبة 2، صور شهور معدودات من الفخر والنشوة… ثمّ صور سنوات من الخيبة.
غلبتني العبرة والغصّة تكبر في حلقي. لم أستطع الردّ على الأستاذة. لم يغادر اسم “البوعزيزي” شفتي. ربّما لو لم أكن أشعر أن السقف من فوقي يكاد يرتطم بالأرض، كنت سأقول للبروفيسورة:” إنّه الرجل الّذي لم يحلم بأن يصنع ثورة. لذلك مات أسعد منّا جميعا قبل أن يراها تتحوّل إلى خيبة.” أو كنت سأقول “أنّه الرجل الذي صار اسمه على كلّ لسان عربي وأعجمي لسنوات عدّة قبل أن يتحوّل إلى لعنة على شفاه الساخطين الناقمين على الثورة التونسية وأخواتها”.
لكنّ لساني انعقد فيما عيناي المغرورقتان بالدّموع تلمحان في عجز ملامح البروفيسورة التي تنتظر ردّا. لن يأت.
بعدها بيومين، كان لدينا موعد مع محاضرة تقديمية لـ “دراسات الهجرة والمواطنة” مع البروفيسور جياني داماتو وبمشاركة البروفيسورة ماناتشال نفسها. عرض علينا البروفيسور داماتو مجموعة فيديوهات من إنجاز المركز الوطني السويسري للكفاءة في البحث” حول عدد من الأفكار المسبقة المغلوطة لدى السويسريين.ات عن الهجرة والمهاجرين.
أحد الفيديوهات بعنوان “المهاجرون يهتمّون ببلدانهم أكثر من اهتمامهم بسويسرا”، قدّم معطيات تدحض ذلك وتثبت أنه على الرّغم من أن المهاجرين يحافظون على روابط ببلدانهم الأصلية إلاّ أنهم يشاركون في الحياة العامّة السويسرية ويبنون حياتهم هنا.
استرعى هذا الفيديو على وجه الخصوص اهتمامي. بدا لي أنّه من غير المنطقي، ومن غير العادل أن نتوقّع قطيعة تامّة بين المهاجر وبلده فقط حتى يثبت جدارته بأن يكون مقيما أو مواطنا في بلد آخر !
هل يمكن للمرء فعلا أن ينسى كلّ ما سبق سويسرا؟ أن يفقد ذاكرته فجأة؟ أو أن يحكم عليها بالإعدام؟
هل يمكن لنهر آر الكريستالي أو بحيرة نوشتال الفيروزية أن يمحيا من ذاكرتي شواطئ بنزرت؟ هل يمكن لجبال الآلب الآسرة أن تنسيني تماما جبال عين دراهم؟ هل يعني حصولي على الإقامة في بيرن أو فريبورغ أن أشطب شهادة ميلادي في باجة؟
ألا يمكن أن تتّسع ذاكرتي لمدينة أخرى تنضاف لقائمة مدن خطوت فيها أولى خطواتي وعرفت فيها الحبّ والخيبة والفرحة والأسى، وفيها نجحت وتعثّرت ثمّ نهضت من جديد؟
وألا يمكن لقلبي أن يتّسع، في هذا العمر، لوطن آخر؟ لحبّ آخر؟
الوطن، تلك الصورة الحالمة، وطنان. واحد مازلت أحمل جواز سفره دون أن أعيش فيه. وآخر أعيش فيه ومازلت لا أحمل جواز سفره. وطن يشبهني في غربته، ووطن أشبهه في غربتي.
“هل تعرفين اسمه؟”، سألتْ البروفيسورة ماناتشال.
“نعم، اسمه الوطن”.