ناس بالنّاس…
يقولون ان الحديث اخذ وعطاء، واقول ان الحياة كلها قائمة على الاخذ والعطاء: اطار ذلك قاعدة الحق والواجب، ان اخذت فانت تمتلك حقك وان اعطيت فانت تؤدي واجبك وما زاد على حدود الحق والواجب يحسب على ظاهرة اختلاف طباع الناس في السلب والايجاب. فان كنت بائع تبر مثقاله بدينار فاعطيت مقابل الدينار اكثر من مثقال فانت اديت الواجب وزيادة، وان كنت اخذت عن المثقال اكثر من دينار فانت اخذت الحق وزيادة.. وكذا الامر ان كنت بائع تبن فلا خلاف في الامرين بين مثقال حبة من ذا او مثقال حبة من ذاك. ان الذين يُفرطون في الاخذ كثيرا ما ينعتهم الناس بالانانيين والذين يفرطون في العطاء يصفونهم بالمبذرين. وبين هذا الحد وذاك عالم رهيب من صنوف الحياة..
انه من الحكمة ان لا يغالي المرء في اخذ حقه بل عليه ان لا ياخذ ذرة زائدة عن الحد. واني ارى ان المغالاة في العطاء فيها نظر. واني اقسو احيانا في هذا الامر قسوة تجعلني ابغض ان يضيف شخص ذرة في اداء واجبه فلا اثرة ولا ايثار. مناط حديث كهذا ان المجتمع اليوم اصبح قائما على تهافت فضيع نحو الشطط في ذا وذاك.. اصبح الناس يؤمنون بان كل رغبة قابلة للتحقيق وكل حاجة يمكن قضاؤها وكل مانع قانوني مأمول تجاوزه: هذا صديقه مسؤول كبير في قطاع كذا، وذاك صهره على علاقة متينة بالسيد فلان، ذاك الرجل متمرس على الادارات لا يستعصي عليه امر فيها، وهؤلاء تحكمهم كلمة طيبة او قل ابتسامة او اشارة من طرف عين..
استحكمت هذه القناعات في الناس حتى اصبحوا لا يراعون للقانون سلطانا ولا للتراتيب شأنا ولا للحق والعدل والمساواة معنى..
ليس الخطر ان يكون القانون مداسا بحق لان لنا ايمانا بان من جاوز القانون نال عقابا عاجلا او آجلا- بل وليس الخطر ان تتفشى الظاهرة بين الناس، ولكن الخطر ان تترسخ هذه القناعات في الاطهار وتؤثر في الحس الاجتماعي الصحيح فتنقلب القيم، وانتظر بعدها ان يسالك بعضهم “كتيّف” لمساعدته على ان ينفلق البحر له كما انفلق لموسى عليه السلام.
تفشت الظاهرة حتى اصبحت امرا مالوفا، ذلك انه لا يطلب منك الصديق ولا القريب الا حاجة تتعارض مع القانون فيها حيف للحق العام او حيف للحقوق الفردية. ان الافراط في طلب هذه الخدمات لا يتطلب الا التجرد من الحياء بالشكل الذي يصبح معه الاحراج لا معنى له.
انه لفرط ما أُدعى اليه من مساعدات من هذا الشكل اصبحت على هيئة لا احسد عليها، وهو ما دعاني الى الاقتصاد في الاحتفاء بزواري حتى لا تشجعهم حفاوتي على التجاوز في الطلب، بل اصبحت اتوقى ملاقاة اي كان من معارفي مخافة ان يحرجوني بما لا اقبل بفعله. ولطالما تورطت في بعض المواقف مع من حسبت انهم يودون مني خدمة في حين انهم انما جاءوا لامر لا علاقة له بظنوني، ولا غرابة ان ينعتني بعضهم بالقسوة في المعاملة والحدة في الطبع والجفاف في المعشر.. لكن عزائي في كل ذلك اني لست ممن يقصدهم الناس باستمرار فالحاجة مني في العموم مدارها موسم واحد ياخذ الصيف منه نصيبا وتاخذ بداية السنة الجامعية منه نصيبا آخر ثم يزول الكابوس.. وان يبقي في النفس اثر يؤلم فتلك ضريبة التمسك بخيارات الشرف.