من واقع تجربة “إنسان”.. أفكار لتنويع مصادر دخل المؤسسات الإعلامية الناشئة
في كانون الأول/ديسمبر 2020، نفّذتُ فكرة كانت تخامر ذهني منذ إطلاق منصّة “إنسان”. قمصان للبيع!
قد يبدو الأمر مُبهمًا أو مُضحكًا حتّى للوهلة الأولى، لِمَ قد تقوم مؤسسة إعلامية ببيع قمصان؟ في الواقع، لم تبع “إنسان” القمصان فقط، بل صممّتها وخاطتها وسوّقت لها وأوصلتها إلى الحرفاء.
كانت “إنسان”، التي انطلقت في أيار/مايو 2020، حتّى ذلك الوقت تعمل بمواردي الذاتية الشخصية. ولكنّ جمهورها كان يكبر. فكّرت كيف يمكننا أن نجعل الجمهور أكثر وفاء لرسالتنا الإعلامية ولعلامتنا التجارية؟ وضعت بعض الأفكار لنماذج اشتراك مبتكرة ولكنها قابلة للتطبيق في بلد لا تزال فيه ثقافة الدّفع مقابل الحصول على المعلومة محتشمة. وكانت فكرة القمصان هي الأكثر عملية وقابلية للتطبيق ولتحقيق أثر. صمّمنا مجموعة قمصان خريفية وشتوية تحمل عبارات مختلفة أهمّها عناوين لمقالات نشرناها سابقًا في المنصّة، وبعضها الآخر مرتبط بقضايا تؤمن بها “إنسان”.
خمسة تصاميم بالألوان الأحمر والأزرق والأسود تحمل العبارات التالية: “وطن خارج الخدمة” (عنوان أحد تحقيقاتنا)، “في البدء كانت القصّة” (شعار “إنسان”) وعبارات أخرى.
ساعدنا أحد أصدقاء المنصّة في الوصول إلى معمل خياطة جيّد وجهّزنا النماذج الأولى للقمصان ثمّ بدأنا في الترويج لها عبر حسابات المنصّة على السوشيال ميديا بعد القيام بحصّة تصوير في شوارع العاصمة تونس. كانت الرسالة الترويجية كالتالي “اشتر قميص إنسان، وادعم الصّحافة الحرّة! باقتنائك أحد قمصاننا، تصبح مشتركًا في منصّتنا وشريكًا في الحلم: صحافة جادّة ملتزمة بالقضايا العادلة! أترك لنا رسالة على الصفحة وسنتواصل معك. ماذا تنتظر؟”.
في أقلّ من شهرين، بعنا 250 قميصًا أي 250 اشتراكًا في المنصّة. كان لقميص “وطن خارج الخدمة” نصيب الأسد في المبيعات، حيث ارتداه عشرات الشباب في المظاهرات الشعبية التي اندلعت في شهر كانون الثاني/يناير 2020 بتونس، كما لبسه الكثيرون لحضور مناسبات ثقافية ومدنية مختلفة، حتّى أنّ زملاء صحفيين ارتدوا القميص خلال عملهم الصحفي أو حضورهم مناسبات إعلامية.
كان هناك أيضًا من بين جمهورنا وأصدقاء “إنسان” الأقرب لنا من طلب تصميم قميص خاصّ به، مثل إحدى صديقات المنصّة التي جهّزنا خصّيصا لها قميصا يحمل عبارة “إيه في أمل، وإنسان…”. وهل هناك أروع من أين يكون اسم منصّتنا جنبًا إلى جنب مع إحدى أجمل أغنيات فيروز؟
لاحقًا، قمنا خلال فترة محدودة ببيع القمصان عن طريق أكبر موقع للبيع الإكتروني في تونس، قبل أن نوقف التعاون وقد تخطّى حاجز المبيعات الـ450 قميصًا، أي اشتراكًا في المنصّة.
لقد نجحنا في جعل الجمهور التونسي يدفع لدعم مؤسسة إعلامية ناشئة، وهذه فكرة يمكنكم تنفيذها في مؤسساتكم الإعلامية، من أجل إشراك الجمهور في دعمكم وتنويع مصادر دخلكم. ليس بالضرورة أن تبيعوا قمصانًا، هناك عدد لا محدود من المنتجات التي يمكن أن تقدّموها لجمهوركم، المهمّ أن تحمل طابعكم الخاصّ وتروّج بشكل جيّد لعلامتكم التجارية كمؤسسة.
في “إنسان” لم نبع القمصان فقط. بعنا أيضًا خدماتنا. فبالإضافة إلى إنتاجاتنا الخاصّة بالمنصّة، أنتجت “إنسان ستوريز”، الشركة التي تدير “إنسان”، موادّ إعلامية ومحتوى لحساب الغير. من أهمّ هذه الخدمات، إنتاجنا لسلسلة فيديوهات موجّهة للسوشيال ميديا لحساب شبكة أريج للصحافة الاستقصائية، التي سبق أن عقدنا معها اتّفاقية شراكة.
كانت الفكرة من الفيديوهات هي زيادة وصول عدد من التحقيقات التي أنتجتها الشبكة واستهداف الجمهور في منصّات مختلفة من التواصل الاجتماعي. من بين التحقيقات التي صنعنا حولها محتوى موجّهًا للسويشل ميديا، كان تحقيق التعايش الممنوع للزميل عبد الله أبو ضيف والّذي وثّق معاناة حاملي فيروس نقص المناعة البشري في مصر.
وضعنا خطّة كاملة للترويج عبر المحتوى للتحقيق المذكور. وقد تمثّلت في إنتاج قصص مصوّرة للنشر في منصّات فيسبوك وإنستجرام ويوتيوب وتيك توك ضمن تصوّر مكتمل يمتدّ تنفيذه على شهر كامل. حيث تبدأ الحملة بنشر فيديو على فيسبوك عن الأثر الّذي نجح “التعايش الممنوع” في تحقيقه، ثمّ نشر فيديو على تيك توك يبيّن أشكال معاناة المتعايشين مع الإيدز في مصر استنادًا للتحقيق، يليه فيديو ريل على إنستجرام حول التغييرات التي ساهم التحقيق في إحداثها، مع نشر مجموع من قصص انستجرام بين هذا الفيديو وذلك، وتنتهي الحملة أخيرًا بإجراء حوار مباشر عبر إنستجرام مع معدّ التحقيق.
عن طريق الترويج عبر المحتوى، وصل “التعايش الممنوع” إلى جمهور أكبر وبلغت رسالته مستخدمين ما كانوا ليعوا بها إن لم يتمّ استهدافهم في المنصّات التي ينشطون بها، مثل تيك توك.
بالنسبة لنا، كان من المهمّ أن تنجح “إنسان” في تحقيق دخل من خلال الإنتاج للغير، فذلك إثبات على أننا كفريق نستطيع إنتاج محتوى محترف أوّلا، وبإمكاننا ضمان مصادر عائدات غير التمويل الأجنبي ثانيًا. وقد تعزّز هذا التوجّه بنجاحنا في إنتاج دليل “مهاجر” لقضايا الهجرة واللّجوء بالشراكة مع مؤسسة فريدرش ناومان من أجل الحرية مكتب تونس.
يتميّز “مهاجر” بكونه الدليل الأوّل من نوعه حيث جاءت كلّ موادّه سمعية بصرية تفاعلية، بالإضافة إلى أنّ عملية تصوير موادّه وتحريرها تمّت بالكامل عبر تطبيقات الهاتف الجوّال.
وتتمثّل فصول الدليل في دروس نظرية وتطبيقية بمنصة “يوتيوب” وقصص مصوّرة لمهاجرين على فيسبوك وفيديوهات تعليمية في كلّ من إنستجرام وتيك توك، إضافة إلى حوارين مباشرين مع خبيرين في تغطية الهجرة واللّجوء.
وكان الهدف من “مهاجر” هو مساعدة الصحفيين على تغطية أفضل لقضايا الهجرة واللجوء وتقديم تربية إعلامية جيدة للجمهور العريض حتى يكون قادرًا على فهم الخطاب الإعلامي المتعلّق بالهجرة وتحليله.
من خلال إنتاج دليل “مهاجر”، أثبتت “إنسان” قدرتها على إنتاج موادّ إعلامية مبتكرة وذات جودة وعلى قدرتها للوصول إلى الجمهور العريض. والأهمّ أنه أكّد قدرتنا على التعويل على كفاءاتنا في الصحافة وإنتاج المحتوى، بدل التعويل فقط على التمويل الأجنبي، على الرّغم من أننا نتمتّع حاليًا بتمويل لمدّة عامين من أحد الجهات المانحة.
هناك إذن عدّة أفكار “خارج الصّندوق” يمكنكم تطبيقها داخل مؤسّساتكم لتنويع مصادر الدّخل وتحقيق الاستدامة وإشراك الجمهور. فيما يلي بضعة أفكار أخرى قد ترغبون في تنفيذها:
-تنظيم تظاهرات ثقافية بمقابل (حفلة موسيقية، عرض مسرحي، إلخ…).
-تنظيم لقاءات مع أعضاء فريقكم التحريري أو شخصيات مؤثّرة.
-جني العائدات من صناعة محتوى رقمي.
-إنتاج فيلم وثائقي.
-إطلاق برامج اشتراك وفق أفكار مبتكرة.
في الختام، تذكّروا أننا لم نولد ونحن خبراء في الاستدامة أو ريادة الأعمال. نحن نتعلّم كلّ يوم، والمتعلّم قد يخطئ وقد يصيب. المهمّ هو أن تكون أفكارنا نابعة من بيئتنا ومحيطنا، قابلة للتطبيق في إطاره. قد تكون هناك أفكار “خارج الصندوق” عظيمة جدًّا نفّذها صحفيون أو روّاد إعلام في مناطق أخرى من العالم، لكنّها صعبة التنفيذ، أوغير متلائمة مع طبيعة الجمهور وسلوكه أو مع السياق الموجود في منطقتنا.
والأهمّ أن تتذكّروا أنّ الجمهور العربي يمكن أن يدفع بالفعل لدعم مؤسسة إعلامية ناشئة إذا آمن برسالتها وشعر بصدقها ولمس تأثيرها. لقد فعلت “إنسان” ذلك!