من الأرشيف : مَتَى نَنْضَمُّ إلى بَعْضِنَا وَقَـدْ خُلِقْـنَا لِنَتَّـفِقْ؟
إننا واقعون هذه الأيام في مفترق طرق الحياة، وانه بين كلمة جد وهزل يمكن أن ينفرط عقدنا فنفقد الوطن والأمة، والمجد والشرف. لماذا لمْ يعد للمبادئ والقيم أي معنًى. ولماذا كانت حياتنا فيما مضى قصيدة تهفو للانعتاق؟ ولمَ كانت لنا في التاريخ حركة تحرير وطنية، وكانت لنا في أعقابها فرحة بالاستقلال، ونخوة بميلاد دولة اقتلعناها من بين مخالب مستعمر نهش الكيان وامتص الدماء وجعلنا هيكلا لا يقوى على شيء؟
لماذا هذه الأنانية اليوم لدى رجال هيَّأَ لهم الوطن ـ بما بقي له من روح ـ أسباب البروز لينالوا العلوم والمعارف خارج الحدود، ولما عادوا إليه ركبهم الغرور فأصبحوا نخبة لا يشبع نهمها إلا الانقضاض على السلطة حتى ولو كلفها ذلك تجريع الشعب ويلات عذابات لم يجرعها له المستعمر. لماذا؟، لماذا لما راح منا سيد انبعث فينا آخر ضيق على نفسه سبل الحياة برغم رحابتها وسد أمام عينيه طريق النور الذي سلكه سابقوه فحرن في المفترق تائها بين المسالك؟ ألـأن بورقيبة مضى سَمِحنا لأنفسنا بان نشرّح جسده فنتعامى عن انجازاته ونرقص على عثراته، ألـأن بن علي نجا بجلده من قبضة الثائرين في زحمة ضبابية الخيارات نمعن اليوم في ركزه ورفسه بما يستحق وبما لا يستحق فقط من أجل إثارة الغبار على طريقه ليخلوَ المجال للعبث في الساحة بلا هدى ولا رقيب، وللركوب على آلام الشعبِ ونسج أوهامٍ تأسر حرية النطق بكلمة الحق. ألا أفيقوا واعلموا أن الوطن لا يريد منكم هدما ولا تقويضا، لا يريد منكم التنكر لمكاسب أيًّا يكن صانعها، ولا يريد طمس هنات ماضيه لأنها ترسم معالم طريق المستقبل، ولأنها وسيلته لاختبار مدى قدرتكم على تقديم الإضافة، ولقياس مدى أهليَّتِكم لتسلم مقاليد بناء مستقبل أفضل. نحن اليوم فعلا في المفترق: كنا بالأمس نبحث عن واحد: رجل أو امرأة، أو عن اثنين، عن أفضل من كان في حزمة مترشحين جهلوا أنفسهم فالقوا بها في بحر موجه هادر فبلغ منهم الشاطئ اثنان، وفيما كان حريا بشعب طبقت أخبار وعيه أرجاء المنطقة والمحيط، شعب تخلص بالأمس من بهذلة صعوبة الاختيارـ فيما كان حريا به أن يهتدي إلى الانتصار لطريق الأمن والأمان وتامين قواعد الإقلاع لمستقبل يضمّد جراح عهد ما قبل الثورة، وجراح الفترة الانتقالية وان يلتف على هواجس مخططات الظلامية.. فيما كان حريا به أن يفعل ذلك يفاجئنا بالسقوط في فخ التشكيك في قدراته وتطلعاته وتوقه للفضاء الرحب الساطع فيستسلم لمخططات التنازل عن سيادته والدفع بوطنه في شعاب تنهي وجوده بالكامل. قد يُعذَر الشعب لما يُقذَفُ به في مفترق المتاهات، أما أن يتردد في مفترق خير أو شر فذلك ليس من صفات قوم كان لهم أكثر من موعد مع التاريخ. آه يا وطني، مالي أرى أبناءك تتقاذفهم رياح الاختلاف فيتعلقون بحبل بئر عميقة يأخذهم صعودا ونزولا بين السطح والقاع فلا هو يبلغ بهم نبع الماء فيرووا ظمأهم منه، ولا هو يدرك بهم مشارف البئر فيحتموا من مخاطر تلف الحبل. ألا ما لهم، وما دهاهم؟
تشنجوا يا هؤلاء ما وسعكم التشنج، وتصارعوا ما طاب لكم الصراع، وتمسكوا بتهيؤات وضع عنيد لا يرجى منه خير، واعلموا أنكم في قرارة نفوسكم لا تجدون مبررا واحدا يسمح لكم بولوج نفق الخلاف اللهم إن كانت عقولكم خاوية من الحكمة فاقدة للصواب، وكانت نفوسكم عاجزة عن تبين مسالك الحق التي لا يخشى فيها الشجعان لومة لائم، وكان وجدانكم منبتا من مقاصد شريعتنا الربانية الحنيفة.. يا إلهي لِمَ لم يتفطن ابن بلدي إلى أن قوى الاستكبار التي تحرك دواليب السياسة على أرضنا وفي المنطقة تكيد إلينا ـ باستمرار وبلا هوادة ـ وإلى إخواننا العرب والمسلمين لأننا جميعا نحمل قضية، ولِمَ لم نتفطن إلى أن وسيلة كيدهم لم تعد مواجهتنا بجيوشهم القادمة من وراء البحار في معارك تفني الآلاف من أبنائهم ـ وإنما أصبحت اليوم صراعا آخر يرتد على ذاته يمعن فيه بعضنا في تصفية البعض في حرب قذرة رتبتها الامبريالية بمكر ودهاء حتى ننشغل عن الصهاينة ونقتنع بان إسرائيل لا تمثل خطرا علينا وإنما الخطر نابع من بين أضلعنا ــ رتبت أمريكا هذه المؤامرة وأحالتها لمن تبنوها حربا بالوكالة ركيزتها الأولى خيانات أهل السلطان في ربوعنا بحيث أصبح بعضنا رأس حربة في نحر أخيه، وأصبح من جهة أخرى لمسة محبة وغزل لعدو اغتصب أرضا وشرد شعبا وداس مقدسات. تلك هي أمريكا العدو الذي لا يُخفي عداوته وإنما يتباهى بها، وتلك قطر الرائدة زعيمة نادي الوكالات لخدمة أمريكا، وأولئك هم الإخوان الراكبون على أسطورة الربيع العربي ليتربعوا على تاج السلطة مستبيحين ذبح الفضائل، وهذا رئيسنا المؤقت الفارس الغبي الذي اختاره مندوب الإخوان ليحقق له رغبة قطر في نيل رضا أمريكا.