مثلُنا الأعْلى.. منْ يكون؟
لما أفضى الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الماضية إلى تأهيل (قيس ونبيل) للنزال اسقط في يدي وأدركت أن قطار السياسة في بلدي فَـقَـدَ قضبان سكته وأصبح يسير على غير هدى: يا إلهي هذا رجل مازالت سلاسل الفساد تشده إلى زنزانته بالرغم من أن ثقله في المجلس النيابي يمكن أن يحقن أدمغة خصومه بفالج يصيبهم بشلل- وذاك رجل كانت رياح الثورة قد دفعت به إلى منابر الإعلام إلا انه ظل متواضعا في زاده الفكري طريفا في أسلوب تواصله، قلت آنذاك: (..هُزِلَتْ)، رحماك يا وطني..
ولئن حرصت وقتها على نشر ورقة مطولة لشرح موقفي من أداء واجب مقدس وتكريس حق مشروع- إلا أني عزمت من يومها على أن أتعقب المستهترين بالقضية الوطنية أينما كانوا حتى داخل الفضاء الذي استمد منها أنفاسي، غير أني وأخذا بخاطر أهل بيتي رأيتني اكتفي بتدوين أفكاري على ورقات منفصِلة لأوهم نوازعي أني لم استسلم ولان إجراءات جائحة كورونا ينبغي أن لا تقطع صلتي بالوطن بالكامل، لذلك كانت تدويناتي وسيلتي للإحساس بتواصل قوة النبض الوطني في داخلي.
كان ذلك في البدء لكن تبين لي بعد ذلك أن الوطن الغالي يدفعه المسؤولون عنه إلى سلوك طريق الحرجة بحيث بلا تمييز بين الشيء ونقيضه، وان معظمهم متمسك بان الغاية تبرر الواسطة وان الخبث وسيلة مستباحة في مجتمع عمت فيه عيون أهله عن الحق.. لذلك قررت أن لا استسلم فمنافذ الحركة وشعابها تمثل حقا وجها من وجوه معادلة الحياة: نافذة النور، نافذة الآمل، نافذة الحلم. أغلق هذه وافتح ثانية، أغلقها وأعود لفتح الأولى، أصر على فتحها ولكنها مفتوحة غير أنها لا ترسل إلا الظلام لقد غشتنا العتمة من كل جانب.
أحادث نفسي باستمرار فاشعر بالمواساة وبانتعاشة الأمل، أسرع لقلمي أدون الأحداث ادفن شرها بين السطور واخزن بشراها في صدري استمد منها القوة لمواصلة الطريق بحثا عن النور وان تكن أسبابه صعبة المنال.
أعود لكم اليوم- أيها القراء- أتطارح معكم سر التفاؤل برغم كثافة السواد، ربما لم يكن زادي سوى طرا طيش حديث متعلقة أساسا بضيف الساحة السياسية القادم من بعيد السيد “قيس سعيد” الذي أصبح بالنسبة لشياطين السياسة موضوعا ثريا للمناورة وخاصة من قبل النهضة التي قيدت تونس بسلاسل تكبل كل حركة ما لم تفض إلى إثراء رصيدها من أسباب استحكام السلطة، والى تامين مصير كتلها ولو على حساب أقدس واجبات السلوك السياسي. هي ملاحظات خالطت أنفاسي وجاد بها فكري وتناغم معها وجداني:
[– أنا صدقا سوف اجتهد في إثارة أفكار لا تغضب أحدا فانا اربأ بنفسي أن أكون شريرا “مجرما” مما يعني أن كل ما سوف أقوله صادق النية فان اغضب أحدا فان ذلك عن غير قصد وإنما هو حظي وحظه وان مرد ما يحصل يزعم بعضهم انه لا يغضبه شيء. كانت مشكلتي دوما أني أتوسم في نفسي القدرة على المجاملة والتجاوب مع الرغائب فان غفلت أحيانا فلا يعني ذلك أني أخطأت وإنما الخطأ في من أغضبه كلامي لأنه بلّغني رسالة لم أحسن فك تشفيرها.
– فوز قيس سعيد بمركز الرئاسة لم يكن نصرا سياسيا وإنما كان ظاهرة صنعتها متناقضات عصية عن الفهم. ومن ثم فانه ليس من الهين مؤاخذته على تصرفاته المثيرة قبل سبر أغواره والتأكد من انه أنهى ترتيب أفكاره الباطنية.
– من حق قيس الغضب من حكام الأمس ومن الشعب الخانع وهو فرد منه- لكن عليه أن يشرع حالا في محاسبة الماضي انطلاقا من الحزب المهيمن منذ الثورة والذي تسبب في فسادٍ يدمر الدولة في كل حين جراء مراوغاته للتمسك بالسلطة، إن واجبنا يتمثل في التعبير عن غضبنا على أشرار النهضة إذ كلما اشتد غضبنا عليهم أعطينا الرئيس حجة محاسبتهم.
– انا لم انتخب “قيس” كما شرحت سابقا وأنا الآن كئيب ومضطرب ولكني على يقين من أني سوف أنصف نفسي. قيس اخذ القطار إلى الأفضل ولكنهم وجهوه إلى وجهة أخرى وانزلوه في محطة جهنم. قيس حاز النصر في جميع المكاتب ولكن سيؤرقه الذين اختاروه ألف مرة أكثر من الذين رفضوه وإن الذين غالطوه لن يحصلوا على شيء بدليل انه شرع في التصرف بما يناسب الإجماع وليس بما تقتضيه المكافأة، ويقيني أن”قيس” بات يتمنى ان لو كان منتخبوه فعلا هم أولئك الذين رفضوه يوم الاقتراع.
– حادثت نفسي قبل أن أتكلم فتساءلت: هل يتفطن قيس إلى انه عليه أن يغير منهجه ومنطقه وحديثه ونظرته وتقاسيم وجهه فانفعاله لم يعد له من موجب.. صحيح إن الأجواء ليلة إعلان النتائج كانت لا توصف ولكنها سوف لا تعبر عن حقيقة الوضع وسيكتشف الجميع إنهم قطعا ليسوا متجانسين..
– إننا نفهم من خطابه الأول انه مقتنع بان أحلام الشعب لم تتحقق إلا بقدومه وهو ما يعني وجوب شطب ما سبق وتحميل النهضة مسؤولية الإخفاق.. إن إشارته إلى وجوب تجديد الثقة اعتراف بان الثقة كانت موجودة فعلا.
– انه على كل حال يتوجب على “قيس” تعديل أسلوبه الاتصالي كأَن ينتدب مترجما يحسن الخطاب بالدارجة تماما كما عليه في سياقات أخرى تفعيل لغة الإشارة خدمة للقاصرين.
– إن بهرج الاحتفال بفوز “قيس” سيدفع النهضة إلى امتصاصه حماية لنفسها من اشراقة منتظرة.
– إن الاستقلالية قد أعطت ثمرتها، فهل يعي السياسيون أن العبرة ليست في الأحزاب وإنما الإخلاص والوطنية والاستقامة هي التي تصنع الحياة وترسخ مناعة الأمم.. الم نكتشف أن نتائج الاستحقاقات كانت عقابا لمن كان يحكم..
– انه علينا جميعا أن نحذر من خيبة أمل الجيل الجديد وعلينا أن نتعظ من انسلاخ مجموعة الشباب الذين اعتمد عليهم “قيس” ولم يكافئهم بتعجل فرض ميزان القوة على سماسرة السلطة –]