صفاقس الجريحة بقلم : البشير عبيد
زار مدينة صفاقس في التاريخ القديم شخص فأعجبتْهُ، وجزاء لها على تقديم أهالي صفاقس له ما يتَطلّبه الشّخص من
احتياجات بدنيّة للرّاحة وما يتطلّبُه بدنُه من تغذية قال فيها وفي أهلها هذه الأبيات بعد أن غادَرها :
صفاقس لا صفَاعيشٌ لساكِنها ولا سقَى أرضَها غيثٌ اذا انْسكَبا
نَاهيكَ من بلدةٍ من حلّ ساحتَها لاقَى بها العاديَيْنِ الرّوم والعربَـا
قد شاهد البحر من لؤم لساكنها فكلّما همّ أن يدنو لها هربَــــــــا
وكان الأجدر به أن يقول هكذا بعد أن ينزع الجهل :
صفاقس لا شحّ عيش لساكنها ولا جفا أرضها غيث إذا انسكبًا
ناهيك من بلدة من زارها أحد لاقى بها الطيّبين الجود والأدبَــــا
قد شاهد البحر من لطف لساكنها فكلّما ناء عنها جاءها طربا
هذا ومع الأسف الشديد هجرها أهلها، وتركوها كالثّكلى تندب حظّها، وتبكي الذين هربوا عنها، وتخاطب أهلها وتقول : لقد احتفظتُ بمقوّماتي المعهودة كما هي بسوري الفخم الذي يقلّ مثله في الدّنيا متانة وعُلوّا ورَوْعة، وبقصبتها ودار إمارتها وما يُسمّى دار الجلّولي، وبنهجها وديارها وأسواقها وأبوابها، وأماكنها المسماة : الشّوْكة المعلّقة، وعنق الجمل، والحُمَيْديّة، ورحبة الرماد1 ورحبة النّعمة وزنقة عَنقْني ونهج الميتين (ولا موتى) وسبيّط الهم (وحُوّل حديثا الى سبيّط الفرح) وسبط الرومي وسوق الفرياني وسبط قاليا وزنقة الفنطازية وسبط صندور، والرمّانة والعروسين وجامع العجوزين وسوق القطران وسوق الربع والجامع الأعظم قلب المدينة، وغير ذلك مما هو في انتظار عودتكم أيّها النّاسون. فما هو الذّنب الذي ارتكبته حتى تجازوني الترك والإهمال والوحدة القاتلة.
فماذا فعلت من المزعجات حتى تفعلوا معي ما فعلتم والتّناسي أشدّ من النّسيان. يا أبنائي ألم أُجْرِ الماء في شوارعكم ودياركم، ألم أنوّر شوارعكم نهارا وليلا ودياركم وأسواقكم بالكهرباء، ألم أهيّئ لكم رزمة كبيرة من التليفونات تكفي كامل المدينة وزيادة، ألم أوزّع عليكم الدّكاكين في كلّ مكان وحيّ لتسهيل اقتناء مطالب الحياة، ألم أرسل رجال البلديّة لتنظيف الشوارع من الزبلة وأخيرا وليس آخرا فتحت مركز شرطة يُوزّع الأمن في جميع المناطق وختمت المتطلّبات بتحويل سوق الحدّادين الى محلّ للثقافة يلتقي فيه شباب المدينة مع الذين يجيئون من خارجها نساء ورجالا وحتى الشيوخ والعجائز مكرّمين مبجّلين.
نعود الى المؤلّف فهو يقول راثيا مؤبّنا ولم تُغره هذه المنوّمات :
1- قد جاء في الأخبار أنّ صفـــــــاقس تخلو من السكان قلت اسمعوا الكذبـــــا
2 – يا مُخبِر السوء أقوالكــــــم صدقت نادِ يجبْك الصّدى الذي لها نُسبـــــــــــا
3 – جرذانهـــــــــا نفقت2 كذلك القطط والنّزر ممن نجـــا قد أشبه الحطبـــــــا3
4- حتى العصافير قد هامت وقد نزحت لســـــــان حالهم يشكــــو الهمّ والنّصبَا
5- قد شاهد البحر هجرانا لســـــــــاكنها فاختار ساحلُها ردْما وقد هربَــــــــــــــا
6- آهٍ على أسماك الزّروب صبــــارص بَيّوشها أيضــــــــــــــــا ومشهد حُجِـبَــا4
7– جُل في صفاقس ليلا في شوارعهـــا فالكل غابوا ولم أقل لكم كذبــــــــــــــــا
8- ناب عنها لصوص كجِرذان مزرعة رأي قططــــــا ففرّت منهمُ هربــــــــــــا
9- تلك اللصوص غزوهــــا دونما وَجَل شالوا أثاثا رياشا أكملوا النّشبــــــــــــــا
10- كيف الدّخول لدور وهي مغلقـــــــة إليك حلاّ بسيطا يذهب العجبـــــــــــــــا
11- بابــــــــا وحيدا على رغمه اقتحموا ثمّ السّطـوح لوصل كانت السببــــــــــــا
12- فإن وجدوا أبواب البيوت مغلقــــــة فاكسِرْ5ونَقّ منهــــــا ما يُذهب التّعبــــــا
13- لا تنس ميعادنــــــــا للشّرب بيرّتنا6 مكسّرات لطــــــاف تطفئ اللّهبــــــــــــا
14- مــــــــاء ونور وفرش من جيوبهم7 نوما هنيئــــــا فأبعدوا الرّهبـــــــــــــــــا
15- أبكي عليــــــــــك صفاقس وأنتحب أبكي على رجالها السّادة النّجبَـــــــــــــا
16- أين العدول أين الشيوخ وهيبتهـــــم مجــالس العلم ذابت وذوّبوا الكُتبَـــــــــا
17- على مساجدهــــــــا أيضا جوامعها متى شئت زرهــــــا لم تجدْ لَجَبـــــــــــا
18- على مدارسهــــا الست التي أغلقت والجــــامع الكبير فصل8 له نسبـــــــــــا
19- مدرستــــــــا الرّحبة والحاج خليفة شباب فتــــاة وللزّيتونة انتسبــــــــــــــــا
20- شيب شبــــــــــاب وأطفالهم نزحوا مبــــــانيهُــــــم بقيت بعدهم يـببـــــــــــا
21- مربّون مديرون كذاك مشيخــــــــة كبــــــارا صغارا فالدّهر لهم سلبـــــــــا
22- مخــــــــــابز عشر بعدها خمســــة سبعة أغلقت أبوابَهــــــا لمن حسبــــــــا
23- كذلك الخيـــــــــــاطون ومَنْ دونهم قد أوصدوا الأبواب فهل جاء من رغبــا
24- أين صُنّاع أحذيـة بالحذق قد عُرِفوا وقد أرَوْا من صنع أيديهُم عجبــــــــــــا
25- بانوا وقد تركوا فيهـــــــــا مآثارهمْ تبكي عليهم ولمن لهمُ انْتسبـــــــــــــــــا
26- لم يبق فيهــــــــــا ومنها إلاّ نفــــــر ضيوف للسوق الموازية انتصبــــــــــــا
27- أبكي على نسائها الفاضلات أســـى إجلالا فقف لكــل من لها انتسبــــــــــــا
28- أبكي عليها وهل يكفي البكــاء على نبش القبور9 فصار العظم منتهبـــــــــــا
29- قد جمّعوا العظم منهــا وهي دارسة أين المكــــــان فاندب وهل ينفع النّدبـــا
30- النــــــــــاصرية10زالت وهي بادئة ينبي بما ينــــــال صفاقس العطبَــــــــــا
31- فيــــــــا من هجرت الدّيار وطلّقتها عليــــــك بدفع ما عليك قد وجبـــــــــــا
32- معاليم بلديّة لهــــــــــا شرعـــــــت لا تنس فرضــــــا لزاما دفعه نُدبـــــــــا
33- الكهربـــــــــاء والماء قد نعمت بهم فادفع وعذرك بالغيــاب قد شُجبــــــــــا
34- إن امتنعــــــــت عن دفع ستنتـــزع العدادات فــــــلا تقولنّ ذا عجبـــــــــــا
35- فالأمر لله بدءا وآخــــــــــــــــــرةً لا مُمْسك لمن أعطى ولا مُعْطٍ لمن سلبا
تدارك
الجدير بالملاحظة أن أذكر أنّ ما بقي من صفاقس، إذا رأى شخص يعرف المدينة قديما وجاء يتجوّل فيها يصيبه الاندهاش والاستغراب، فهي ميّتة الجناحين حيّة الجهاز الهضمي والجهاز العصبي والجهاز التنفّسي وغيرها إلاّ أنّ الأعضاء الخارجية مشلولة، وقد شبّه أحدهم المدينة بشخص من الدّاخل حيّ والأعضاء الخارجية ميّتة فقال “البطن يعتبر بمثابة العقل الثاني للإنسان إذ تتواجد فيه كميّة من الأعصاب والخلايا الجذعيّة الوظيفيّة تبدأ من منطقة الصّدر مرورا بكامل الأمعاء، لذلك فإنّك في حال أحسست بالخوف أو بألم عاطفي ستشعر بألم في بطنك بشكل تلقائي، فالبطن أكبر جزء في الانسان تظهر منه الحياة وتتوزّع على بقيّة الجسد فيقوم بردّة الفعل لكن بلدنا مع الأسف حَيّ ما في جوفه ولكن ردّة الفعل لم تؤثّر فيه لما أصابه من موت أو صرع أو فقدان إحساس في بقيّة أعضائه ولله الأمر من قبل ومن بعد.
كلمة حقّ يجب أن تقال
يقول الله تعالى : إنّ الله يحب الصّادقين، وبما أنّي أحب الله وأحبّ أن يحبّني الله وإحقاقا للحق فإنّني أقول لم يغادر مدينة صفاقس العتيقة ساكنوها لعدم فتح باب بالسّور تخفيفا من الضغط المروري من باب بوشويشة فقط لكن لعدّة أسباب أخرى من أهمّها وجود مكترين للدّيار للعمل كبيرها وصغيرها ولو مساحة متر على مترين، وبأثمان شبه باهضة مع وجود أماكن للسكنى خارج السّور بأثمان في متناول اليد لمن يخرج من المدينة ووجود وسائل النّقل، والماء والكهرباء والهواء النقي الحسن، والسبب الثاني ما أطلق عليه حاليا التحرّش الجنسي وحتّى الاغتصاب، فقد انْبَثّت في شوارع المدينة موجات من الشباب اللامسؤول وأغلبهم من خارج صفاقس، فمنهم من امتهن السّرقة ويسمّيها الناس بقولهم “يسقط عليه” وقد أصابتني هذه الآفة مرّتين، إحداهما كان المقدار ألف دينار ذاب كفصّ ملح سقط في الماء، وثانيهما مصروف الأسبوع استلبا منّي بطريقة ديبلوماسيّة تدلّ على مَهارة في السّرقة وصاحبُها راع، واقف على البائع يختار ما سيشتريه ولكنّه لا يستطيع أخذه لذهاب ثمنِه.
والحديث عن هذا يطول فلْنَكْتف بهذا المقدار، أمّا الشيء الثاني وهو التحرّش فقد اتّجه بالخصوص نحو أبناء المدارس وخاصّة البنات، مما أجبر الوالدين بأن يصحب أحدهما بناته ذهابا وإيابا حتى تسلم من التحرّش أو افتكاك ما عندها ما يراه المهاجم مفيدا له.
وثالث الفواجع استعمال السّطوح ليلا لسرقة ما يُوجد مما يراه السّارق مفيدا له، وإزاء ما ذكرت من الموجز، هناك أشياء أخرى تحتاج الى التّفصيل. ومن الجدير بالذّكر ما طفح على السّطح من سوق موازية متعلّقة بتجارة الألبسة والأقمشة والأحذية ردمت البلادَ التّونسية بما ذكرت، فيخرج المواطن فيجد الحذاء عند صاحب الصّنعة بعشرين دينارا ويجده في السّوق بعشرة دنانير فلا غرو سيشتري الأرخص، وما هي إلا بضْع سنوات حتى قفل أصحاب محلاّت العمل محلاّتهم التي تسوّغوها من مالكيها الذين هجروها، فإذا المدينة تمتلكها الأشباح وينعق فيها البوم والغربان، بل أنا قد غلطت ومن أين للبوم أي يسكنها وليس فيها ما يأكله وكذلك الغربان وحتى الفئران هجرتها لعدم وجود السّكان والصّنائعيّة، وألْحق بها القطط ثم العصافير وما ذكرت ممّا ذكرت لا يأنس إلاّ بالإنسان الذي صار بين نارين.
1- رحبة الرماد مساحة واسعة في وسط المدينة كانوا يحرقون فيها الغاسول ويستعملون رماده في صنع الصابون ثم بنوا في وسطها براكة لبيع الدخان وقالوا فيها هذا اللّغز : سلتك على قبة خضراء وداير بيها سور، المنظر منظر عبادة وتخرّج في المنكور (والمنكور هو الدّخان بيعا)
2- نفقت : ماتت
3- دلالة على الضعف البدني
4- مشهد حُجبا : هو مشهد البحر الذي كان مجاورا للمعبّد كلم 3 طريق سيدي منصور
5 – فاكسِرْ ونقّ : لسان الحال يقول للص : اكسر الباب واختر ما يعجبك مما تجد وسيزول عند ذلك تعبك وكذلك فعلوا بعلو منزلي
6- هؤلاء اللصوص غالبا ما يتجمّعون ويشربون الخمرة فلا يخافون لأنّهم يعلمون أنّ أصحاب المسكن غير موجودين فالشّرب تصحبه المكسرات
7- من جيوبهم : أي أن أصحاب الدّيار هم الذين سيدفعون
8- فرع صفاقس للفتاة الزيتونية بنهج يوغرطة
9- نبش القبور : دلالة على إزالة جبّانة أهل صفاقس وبناء العمارات مكانها
10- الناصرية : مكان به مواجل لمن ليس له ماجل طيلة العام عدد أيّامه