دمعات شتائية على صدر الوطن !
ألم أقل لك ِ أن الشتاء قد تغير ؟ ..
كان قبيل قدومه يرسل لنا تباشير الفرح والبهجة.. ينثر الإبتسامات على وجه الأطفال والطرقات، يفجّر ينابيع الحنين في قلوب كل العاشقين في بلادي …
كان قبيل قدومه يرسل لنا تباشير الفرح والبهجة.. ينثر الإبتسامات على وجه الأطفال والطرقات، يفجّر ينابيع الحنين في قلوب كل العاشقين في بلادي …
كان وكان.. يبدأ مواسم الدهشة برذاذ ترشرشه السماء على صحاري أرواحنا القاحلة كالموت، فتحيلها بساتين برد وسلام..
يغمرنا بنسائمه العابقة بالرياحين، يحمل معاه مكاتيب الذين رحلوا، ولوعهم الشوق والحنين ..
دعيني أخبرك حكاية الشتاء في بلادي ..
كانت الأرض، تتحضر لاستقباله بكل مفاتنها .. تتهيأ للحبيب القادم على صهوة الغيم .. تفتح خزائن السحر والغواية، ترتدي فساتينها المطرزة بالسنابل والاقحوان، تزين ساقيها بخلاخل الياسمين، تغمر بأحضانها حبيباً أوغل في الغياب والهجران ..
كل الفقراء في وطني نشأوا على حب المطر، تتلمذوا في مدرسة المطر، واحترفوا هواه .. رغم برده على جلودهم، وناره على جيوبهم .. كل الفقراء ..
كيف، وهو يذكرهم بأحضان امهاتهم اللاتي كن يخبئنهم بدفء الروح .. بتحنان آبائهم الذين أفنوا أعمارهم، لأوطان سرقها أبناء الذوات الملاعين !
قبل شهرين، لا أدري يا حبيبتي، أم ثلاثون عام مرّت كومضة.. كنا صغاراً، نتشاقى في زقاق الحي تحت المطر .. نبتلّ بالماء حتى ترتوي الروح، نبرد حتى نفقد الشعور بأصابعنا، نضحك حد الجنون، ونلوذ الى دفء أحضان أمهاتنا آخر النهار ..
كل صباح .. كانت “فيروز” تأخذنا بصوتها الملائكي، إلى عوالم لا تخطر على بال أحد .. تدندن في آذاننا المتعطشة للبوح : “شتي يا دنيا شتي، موسمنا ويحلى”..
تترنم الأرض، تصبح أحلى.. والسماء أحلى، الدنيا أحلى، حتى فقرنا القبيح يغدو وسيماً متأنقاً أحلى، ووجهك الذي لا أحلى منه سواه .. أشهى وأحلى ..
من يذكر رائحة “الكستناء” التي كانت أمهاتنا يشوينها على مدافىء الشتاء ؟ من يذكر لمة الخلان والجيران ؟ و”بابور” الكاز الذي كانت أنغامه تذبّل الجفون، فنغفوا، مترقبين فجراً بات ليلته على همسات الحالمين ..
الان، وبعد ثلاثين شتاء وشتاء يا حبيبتي .. رغم خبيئة العمر التي ما عاد بها سوى “مونة” ذكريات، وكمشة صور، وأطياف الراحلين صوب الغياب .. ما زلت ذاك الفتى الشقي الذي يترقب قدوم المطر !
بالأمس، عاد الشتاء يا حبيبتي.. التقيته في الشارع عابساً صدفة، ما عرفته، ولا عرفني .. مرّ قربي، وما حيّاني !
بدا حزيناً مثلي، وحيداً مثلي .. تساقطت دمعاته على بلادي، وغاب في الزحام !
ألم أقل لك يا حبيبتي أن “الوطن” قد تغير ؟