حبيبتي “تركيا”
إن حديث التونسيين عن تركيا لم يكن وليد اليوم ولا هو وليد الأمس القريب ففي وجدان كل واحد منهم إحساس بتشابك جذور الشعبين منذ أمد طويل، غير أن اسم هذا البلد أصبح في العشرية الأخيرة يتردد على كل لسان وكأنه صار ظاهرة لا ندري أكانت من صنع مواطنينا أم كانت من صنع الأتراك. انه على كل حال لا يمكن إقناعنا بان فريق كرة القدم التركي”قلعة السرايا” ورث كامل خصائص فريق “أجاكس أمستردام” الهولندي حتى أصبح يستأثر بالاهتمام أكثر منه قبل أن يطويهما النسيان معا. ولئن أولى التونسيون هذا البلد اعتبارا زائدا فلكونه وطن كمال أتاتورك ملهم بورقيبة في إقامة دولة عصرية.
لا شك وأن الخيار السياسي التركي في القرن الواحد والعشرين غيره قبل ذلك، إلا أن تحرك الأتراك نحو بلادنا في هذه العشرية لم يكن في تقديرنا اعتباطيا وان الأمر يزداد غموضا لدى أهل صفاقس لما يرون السفير التركي يتنقل إلى مدينتهم بنسق غير معهود من السفارات الأخرى ودون أن يترتب عن ذلك أي احتمال لبعث مشاريع، فقد بدا وان الزيارات كانت في كل مرة تكتسي طابع الاستلطاف أكثر منها شيئـا آخر. قد لا يكون من اللياقة التحفظ على مساعي تنشيط التواصل ولكن ذلك لا يمنع من الاستيضاح لرفع كل التباس.. وكما تعودنا فنحن نورد دوما من الأخبار ما يساعد على الفهم والإفهام.
وحتى نزيح ستار الغموض نطرح السؤال وراء السؤال فنقول بداية: هل كانت تركيا صاحبة بصمة في التاريخ الإنساني أم هي وطن صنعه اردوغان؟ هل كان الشارع التركي غيورا على علمانيته أم انه عاد إلى جذور الدولة العثمانية؟ هل يغرينا في تركيا أنها كانت سرير سليمان القانوني أم يغرينا فيها أنها مهد كمال اتاتورك؟ هل ما زالت تركيا تعيش حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، أم إنها مازالت تتخبط في هاجس محاسبة العالم لها عما اقترفته من حرب إبادة ضد الشعب الأرميني المسكين وغيره من الاقليات؟ وهل الحنين إلى الإمبراطورية الكبرى الممتدة الأطراف والتي كانت واقعا في المشهد الدولي هو المسيطر على العقلية التركية برغم الانكسارات والخيبات؟.
لم تكن تركيا قادرة على فعل أي شيء أو ربما كانت لا تدري ما تفعل بقدر ما كانت تتحسس طريقها على حذر كمن يتنقل بين جدران من بلور. ولما سطع نجم حزب العدالة والتنمية كخليفة لحزب الفضيلة الإسلامي المنحل اعتقد اردوغان انه ملك ناصية شعبه وأصبح بإمكانه إحداث المنعرج في السياسة التركية ولم يدر بخلده أن الشعب في حقيقته ما أراد شيئا وإنما أمريكا هي التي أرادت كل شيء. وطبيعي أن تقود أمريكا التغيير فأسلوب سياسة العالم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي صار مغايرا لما قبل ذلك.
وكان قمة التحول أن تخلت تركيا عن حلم الأجيال في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي برغم أن ذلك كان محور الخط السياسي لحزب “اربكان” المنحل والحزب الوريث. ربما تخلت الدولة عن ذلك لتجد الدعم في التفافها على القضية الكردية، ولذلك صدر، بقدرة قادر وبهدوء، قرار الزج بالزعيم الكردي عبد الله أوجلان في السجن علَّه يفوز بتحطيم الرقم القياسي الذي حققه نلسن مانديلا وهكذا تسنى لاردوغان رفع راية الإسلام شعارا مباركا من قبل العم سام.
كانت سلطات أنقرة في حاجة إلى حشد الشارع العربي الإسلامي ليكون لها سندا في تحركها القذر الذي دعتها إليه امريكا، فصاغت مسرحية سخيفة: مشادة كلامية مصطنعة بين اردوغان وبتريز في منتدى ديفوس (2009) كانت هالتها الإعلامية أكثر من قيمتها السياسية، ثم تتالت فصول المسرحية أثناء حرب غزة وما ارتبط بها من الاعتداء على سفينة التضامن التركية، ورفض المشاركة في مناورات حربية تساهم فيها إسرائيل ثم إلغاء صفقة شراء طائرات إسرائيلية والتبجح بالصداقة مع النظام السوري لتصبح تركيا بعد ذلك معبودة الشارع العربي والإسلامي وأمَلَه في استعادة الأمجاد بفضل البطل اردوغان.
ولما اعتدلت تركيا في جلستها وبدأت تجني ثمار الخطة المحبوكة مسرحيا أدركت وقتها أنها انساقت في تيار أمريكي اقتضته تعقيدات العلاقات السياسية مما تحتم معه الاقتناع بان مكاسب المرحلة يجب أن تبقى وأنها أولى من التغني بالقيم. وهكذا صنعت تركيا بيدها المنعرج بتناغم مع أمريكا وإسرائيل الأمر الذي جعلها تتدنى بالأخلاق السياسية في معاملة الشارع التركي الرافض للانقلاب الحاصل في صلب السلطة، وتتمسك بانحسار التعاطي الروحي في الطقوس الاستعراضية، والتنكر لمعاني الصداقة والجوار والمسؤولية التاريخية لتصبح السياسة التركية شريكا فاعلا في الخراب والدمار والقتل والذبح، وان ما يحصل اليوم في العراق وسوريا وليبيا واليمن والذي يذكرنا بهولاكو والتتار هو بلا جدال بمباركة تركيا على اعتبار انه مضمون الخيانة الكبرى مقابل بقائها ضمن نادي الكبار.. ولا رابعة ولا هم يحزنون.
loumitw@gmail.com (2015)