ثمانية أيام في مدنين
لما نجحتُ في امتحان شهادة العالمية من التعليم الزيتوني كلفتني مشيخة الجامع الأعظم وفروعه بالتدريس في الفرع الزيتوني بمدنين.
توجهت نحو المدينة في أول السنة الدراسية 1955 فاستقبلتني الرياح العاصفة، ولكن لما وصلت الى إدارة الفرع استقبلني الشيخ المدير بالترحيب وأعلمني أن اثنين من المكلفين بالتدريس من صفاقس قد سبقاني واستأجرا دارا واسعة تتسع لك إن وافقا..وبالفعل تكرّما ووافقا.
بدأت التدريس بجامع المدينة، وقدّمت دروس الفقه والنحو فلاحظت أن التلاميذ مازالوا يعودون لكتب الفقه والنحو القديمة ويعدون دروسهم بالوقوف على المتن والشرح والحاشية ولذلك فهم يناقشون المدرّس. وهذه عادة طيّبة ذهبت ودخلت التاريخ…كنت ألبس العمامة والجبة عند التدريس وقد أدخل بهما السوق فتعرّفت عليّ التجار وأكرموني، وإن كانت سوق التموين تتألف من عدد قليل من التجار فإلى جانبها سوق داخلية يعرض فيها الجزارون اللحم ولا يغشّون، فهم يميزون للمشترين لحم البركوس ولحم العلوش ولحم النعجة ولحم الماعز ولحم الجدي..كنت أشتري البضاعة وأنا مطمئن، ولكن الذي حيرني هو من سيطبخ لنا طعامنا ؟ فكرت وعرضت على الزميلين فكرة استئجار معينة فوافقا وتعاون معنا القيم العام المرحوم البشير عبيشو فجلب لنا سيدة متمسكة بلباس المرأة المدنينيّة، وكلفناها بطبخ طعامنا على عادة صفاقس فوافقت…وطبخت فنجحت بارك الله فيها.
كان أغلب الرجال يلبسون العباءة الصوفية ولم تكن تعيقهم عن العمل…ولم يكن في المدينة شرطي أو حرس ولكن كان (الڤومية) وهم تونسيون لهم لباس خاصّ ويأتمرون بأوامر الحاكم العسكري في التراب العسكري..ومدنين آنذاك جزء منه..وجاء من يحذرنا منهم فقال : إنهم بالليل يتجسّسون عليكم قرب النوافذ فإياكم أن تستمعوا الى صوت العرب عبر الراديو…
قضيت ثمانية أيام في مدنين بعدها جاءتني النقلة الى فرع صفاقس ودّعت وما رجعت الى مدنين إلا في أوائل السبعينات للمشاركة في عمل أدبي ثقافي، فوجدت الدكاكين زادت، وبعض المقاهي فتحت، وفيها ودار الشباب والثقافة ونزلٌ بت فيه، والسيارات المدنية كثيرة تروح وتجيء بعد أن كانت خالية إلا من سيارات الجيش الفرنسي…ولاحظت أن الشباب خلع عباءة الأجداد ولبسوا لباس المدنيّة الواردة مثل شباب المدن التونسية.
قضيت يوما وليلة في مدنين وما عدت إليها إلا في زيارات لتفقد أساتذة التربية الاسلامية من المعهد الثانوي وقد اختفى التعليم الزيتوني في مدنين في الستينات كما اختفى في تونس كلها، ولم يكن في عهد التراب العسكري الفرنسي معهد ثانوي..ولم يكن في مدنين مغازات كبرى فكانت وصارت، ولم تكن في مدنين مقاه فإذا هي تمتد وفي صورة عصرية..والنور الكهربائي يتمتع به سكّان مدنين طول الليل والنهار بينما كانوا في عهد الحماية لا يتمتعون به إلا ساعة في النهار وساعات بالليل..
شهادة أقدّمها للتاريخ : إن مدينة مدنين تطوّرت في عهد الاستقلال، وصورتها في عهد الحماية اختفت ولكنها تبقى ككل مدينة في تونس تسعى الى تطوّر أكثر وسكانها يطالبون بمرافق حياتية أكثر وأفضل..ولهم في ذلك حقّ لا ينازعهم فيه أحد.
قالوا : إن المدينة التي تدفعك الى التفكير في المستقبل هي مدينة عظيمة ولذلك عليك أن تنصت لها جيّدا
البشير بن خليفة عبيشو هو جدي رحمه الله .. هل لكم من ذكريات معه ؟
البشير عبيشو هو جدي .. هل من ذكريات معه ؟