المرونة والقطعیة
لا مجال للتقلیل من أھمیّة جانب الإختبار والحساب والجزاء في الشرع فھو من أهمّ الأسس للدّین خصوصا أنّه مرتبط مباشرة بمبدإ العدالة الإلاھيّة.
ولكن لا یمكن أن نغفل عن مجال رحب في التشاریع یرتكز على النصیحة والھدایة والرحمة.
والتشاریع في الإسلام – الرسالة الخاتمة – ھي من المفروض مختومة بطابع الأبدیة والصلوحیة لكلّ مكان وزمان . أمّا بخصوص المبادئ والأحكام العامّة فبطبيعتها عدم ارتباطھا بالزمان والمكان، وأما الأحكام والتشاریع التفصیلیة والتطبیقیة فھي تطرح تساؤلات عمیقة لمعادلة صعبة عند الحدیث عن مدى الصلوحیة.
الحقیقة أن المعادلة الصعبة محلولة حتما بصفة آلیة فھي في عنایة معلّمنا ربّ العالمین وما علینا إلا فھم ” الإصلاح .”
في الواقع، الفلسفة المبدئیة التي بني علیھا الحلّ بسیطة للغایة كفكرة عامّة وھي المرونة. والمرونة ھنا تفید السّعة والاستیعاب والتكیّف والاحتواء ولا ترمي فقط إلى تمدید الصلوحیة بل إلى التیسیر وتوسیع مجال الحلال والمباح على حساب المحرّمات.
لعلّ من أبسط وأوضح الأمثلة التي یمكن إدراجھا ضمن ساحة المرونة ، الزواج في الإسلام . لو نظرنا إلى المنظومة من زاویة التضییق على منافذ المحظورات للاحظنا أنّ الإسلام وسّع إمكانیات الزواج إلى أقصى الحدود ضمن إطار العقل والحكمة ومراعاة الخصائص البیولوجیة والاجتماعیة للإنسان. ودون ادّعاء فھم كل الحكمة، ربّما من بین موانع تعدّد الأزواج للمرأة أولویة حفظ النسب والحدّ من انتشار الأمراض المنقولة جنسیا ولا علاقة للمسألة بالأبویّة أو الذكوریّة. وتضاف لتلك المساحة إمكانیة الطلاق فلم یحرّم كما ھو الحال لبعض الدیانات والعادات. والتعدّدیة مباحة وھي محدودة بشروط ومحاذیر وسقف الأربعة.
خلاصة الموضوع أن الإسلام ترك المجال مفتوحا على كل الاحتمالات الممكنة في إطار الحكمة والصلاح ومن المعقول دون شكّ أنّه یمكن لوليّ الأمر التقلیص من مجال المباح بوضع قوانین مؤقّتة. والموضوع كله بسیط، منطقي ومقنع فعجبا لبعض المقلّدین الذین ینكرون على وليّ الأمر منع التعدّد وعجبا لبعض الحداثیین الذین “یعیبون” على الإسلام السماح بالتعدّد.
لاشكّ أن المسألة السیاسیة مصیریة في حیاة المجتمعات. وتاریخ الشعوب یشھد على مفصلیة الحراك السیاسي من سلم وحرب وتنازع على الملك والسلطة وتأثیرھا على الحیاة المادیة والمعنویة للأفراد والمجموعات. إن مصیر كلّ الناس حتى أولئك الذین لا یستھویھم التسيّس محكوم بالسیاسة. وبقطع النظر عن خلفیاتھم الفكریة والعقديّة وأخلاقھم، یسعى المتسيّسون للوصول إلى السلطة ومنھم عدیمو الأخلاق الذین یھدفون إلى التحكم وبسط نفوذھم بكلّ الوسائل لإرضاء جشعھم المادي وھوسھم بالسلطة ومنھم المدمنون على حبّ السلطة لغایة السلطة ومنھم من یرون في أنفسھم القدرة على القیادة ومنھم حتى أناس رفیعو الأخلاق یقرؤون في أنفسھم القدرة على الإضافة والنفع، كلّھم یتسابقون إلى الحكم كلّ حسب أخلاقیاته وكلّ من منطلق اعتقاد راسخ وكلّ لھ رأي ومنطق وقناعة.
الصراعات السیاسیة إذا متجذّرة وتبقى متجدّدة ولا مجال إلا لإدارتھا بالحكمة والموضوعیة ولا مجال للإنفراد أو الإقصاء تحت أي طائل أو منطق أوعقیدة. والإسلام فیما یخصّ الشأن السیاسي المحض والمتعلّق بنظام الحكم لم یبادر إلاّ من موقع الحیاد والمرونة وھو كسائر الدیانات السماویة یرمي إلى نشر العدل في الأرض بید أنه تمیّز ببعض التوجیھات الإقتصادیة والإجتماعیة المفیدة فحرّم الربا والمیسر ونظّم الملكیة والمیراث وحفّز العمل والإستثمار في خلق الثروة ونظّم عقود البیع والزواج والطلاق والإنفاق والنفقة وغیرھا وكلّھا مبادئ عامّة تستوجب التدبّر والتكملة بوضع قوانین تنظیمیة وزجریة مفصّلة. في صمیم السیاسة إذا، أدار الإسلام الصراعات بحیاد حقیقي وحكّم مبدأ الشورى.
والذین استجابوا لربھم وأقاموا الصلاة وأمرھم شورى بینھم وم ّما رزقناھم ينفقون.” الشورى 38.
إن المتمعّن في الآیة وماسبقھا وما تلاھا یدرك أن إطار الشورى إطار إنساني عام إطار الإیمان والإستقامة والحكمة والخیریة، غیر مقيّد بالنادي الخاص للإسلام. ویمكن القول ّ إن الإسلام لیس شرطا مسبقا للشورى بل إنّ الشورى من متطلّبات الإیمان والطاعة وھي بمثابة الآلیة الحكیمة المطلوب تطبیقھا سواء عند التجانس أو عند التنوّع العرقي والعقائدي.
ومن الشورى الاستشارة والتشاور والمشاورة فعلى أساس الشورى یتم اختیار وانتخاب الحاكم وعلى الحاكم استشارة معاونیه والتشاور مع المعارضین ومشاورة منظوریه. والشورى تفضي إلى حرّیة الصحافة وإبداء الرأي ولا تفوّض فریقا على أساس تد ّینھم أو ّ ادعائھم تمثیل الدین . لا تفویض إلاّ بصفة مؤقّتة ومتحرّكة للأغلبیة المنتخبة والقوانین سواء كانت في سیاق الإسلام أم لا ، لا تف ّعل إلا بالأغلبیة الإنتخابیة وكل قانون یتمّ تبنّیه من طرف الأغلبیة ھو بصفة آلیة قانون مدني بقطع النظر عن بعده أو مطابقته للتعالیم الدینیة .
بمقتضاه إذا لا یحقّ للأقلیة الاستقواء بقداسة الدین لفرض قوانین ولا یحقّ كذلك للأقلیة رفض قوانین أقرّتھا الأغلبیة بتعلّة كونھا دینیة وغیر مدنیة .
أمّا مسألة ” الحكم بما أنزل الله “فلقد ورد المعنى خمس مرّات على الأق ّل في سورة المائدة ) من الآیة 42إلى تمام الآیة .( 50المرّة الأولى والثانیة في الحدیث عن التوراة، المرّة الثالثة عن الإنجیل والمرّة الرابعة والخامسة في رحاب الإسلام . والمثقّف متوسّط الثقافة المتحرّر من الأفكار المسبقة یستنتج أن المعنى المقصود ھو حقیقة معنى عام یشمل المبادئ الكونیة من عدل وخیر الواردة في كلّ الدیانات السماویة ولا یشیر إلى شكل نظام الحكم .
مبدأ المرونة حاضر في عدّة مسائل والمجال لا یتیح تتّبع كلّ الأمثلة ولو بالغنا في الحدیث عن المرونة دون ركائز لن یستقیم الأمر. فالتشاریع، سماویة كانت أم وضعیة، لا یمكن أن تبنى كلّیّا بمادّة ھلامیة، لا بدّ من أسس صلبة وھیكل قائم أو محور ثابت مستقرّ تدور حوله الدوائر. بمقتضى ذلك، المرونة نسبیة وتقابلھا ما دائ الخطوط الفاصلة والقطعیة. في موضوع النظام السیاسي مثلا، الشورى ھي المحور المفصلي المحدّد. وإن كانت الغلبة للمرونة في العدید من الحالات، فإن القطعیة تكون أحیانا ھي المبدأ المسیطر وخیر مثال مسألة تحریم الخمر.
من الواضح أن تحریم الخمر ھو أساسا وكأغلب النواھي من باب “الدین النصیحة” فقد حرّمت لمضارّھا. إن مضارّ الخمر الطبیة معلومة، فھي تدمّر أول وثاني أھمّ الأعضاء في جسم الإنسان: الدماغ والكبد. إضافة إلى ذلك الاضرار بسائر الجسم وخصوصا الالتھاب الحاد للمعثكلة، التھاب قاتل في كثیر من الحالات .والخمر سبب لنسبة كبیرة من حوادث الطرقات والشغل والعنف الشدید داخل وخارج الأسرة.
ولكن إذا انضبط المستھلكون بكمیات محدودة تصبح ھذه النتائج الكارثیة من باب المبالغة والمغالطة ، بل إن بعض الأطباء یعتقدون أن شرب كمیّات محدودة ومدروسة من الخمر یمكن أن یكون لھ آثار إیجابیة على الصحة. ) ربما من ضمن تفسیر “فیھما منافع للناس” (
إلاّ أن طبیعة الناس المختلفة وغیر المستقرّة تجعل من ترشید استھلاك الخمور أمرا ضاربا في الخیال. والمرونة بتحدید الكمیة مثلا سوف تقوّض .الفاعلیة، على الأقلّ لاختلاف تركیز الكحول واختلاف تفاعل العقول والأجسام ،لذلك كانت ضرورة القطعیة في الموضوع : قلیله حرام
بعض العقول السلبیة المقلّدة تمیل إلى رفض مبدإ المرونة ربّما لأنّه مبدأ نسبي یستدعي بذل الجھد وإعمال العقل وھم یتشبّثون بأدقّ التفاصیل المنقولة عبر النصوص والأفكار الموروثة وكل جھدھم ینصبّ في التوثیق “وحراسة المتاحف” .
إنّ الوعي والاقتناع بأصولیة مبدإ المرونة یفتح أمام بصائرنا نوافذ فسیحة للفھم. ألیس علینا إلاّ بناء فكر خلاّق متجدّد متجذّر في الأصول الثابتة والنقیة ؟