العلم والفكر والإيمان … جولة داخل حدود العقل والمنطق
الكلمة أمّ الفكرة وخير الكلام يبدأ بتعريف كلمة. العلم هو معرفة الحقيقة، والبحث عن الحقيقة مسار أزلي لا يتوقّف .
إنّ الإدّعاء بكون العلوم الحديثة تكتفي باستعمال التجارب والنظريات العلمية البحتة والمعادلات الرياضية والمنطقية فحسب إدّعاء يناقش وينسّب. فمنظومة الخيال والتسليم بالأشياء حاضرة في عدّة محطّات من المسار العلمي، والعالم والباحث وطالب العلم وطالب المعلومة كلّهم مطالبون بالقبول بمسلّمات الرياضيات الهندسية وكلّهم مدفوعون للتصديق بفرضيات واستنتاجات علمية دون مشاهدة أو تجربة فعلية. وسواء تعلّق الأمر بمسلّمات أو نتائج توصّل لإثبات صحّتها، يعتمد الإنسان للتدرّج في مسارات العلوم على مواطئ قدم ومحطّات يقع البناء عليها وتخطّيها للانطلاق . دون ذلك يتعطّل التطوّر والمسار التصاعدي للعلوم.
والأهمّ أنّ المسألة تأتي في إطار عقيدة راسخة بأنّ العالم المادّي من حولنا وفي داخلنا، العالم اللامتناهي في الكبر والصغر يخضع لمنظومة قواعد ونواميس دقيقة ومتناسقة، قواعد يسعى الإنسان لاكتشافها وفهمها والربط بين مخرجاتها.
وهي حقيقة جليّة متجذّرة في الواقع ولا تحتاج منا لدفعة ترسيخ.
وما حصل أنّ عالما اكتشف أو سعى لاكتشاف خطإ ما يخصّ هاته المنظومة وكذلك ما سمعنا أو رأينا يوما إعلانا عن إغلاق مجال البحث العلمي بسبب نفاد مخزون المجهول. الإنسانية جمعاء، خوفا وطمعا وفي انسياق لمسار فطري وشبه حتمي تتسابق من أجل فكّ رموز السنن الكونية.
الكلام وليد الفكر، ويسبق الكلام الفكر. كالبيضة وليدة الدجاجة و تسبقها.
الفكر هو أداة من أدوات المعرفة ويتخطّى مجاله مجال العلم.
من تجلّيات الفكر الاختيار والترجيح وعندما يكون الجواب عن سؤال ما ب “نعم” أو “لا” يمكن أن يختلف عبقريان ويتّفق العبقري مع الأحمق. في النهاية يمكن أن يخطئ العبقري ويصيب الأحمق.
من جهة أخرى، لا فكر دون حرّية واستقلالية وموضوعية. والموضوعية تحرّر واستقلال عن الذاتية. فمن خصائص الفكر تماسّه مع الأهواء والانفعالات النفسية وارتهانه لمسألة الموضوعية. ولا ينكر أحد أن الذاتية تنسف كلّ بناء فكري حقيقي وكلّ منتوج فكري مطبوع بالذاتية يفقد قوّة الإقناع وجاذبية الإحترام.
هذا، والطبيعي أن يكون لكلّ فرد حرّية الإختيار واتخاذ المواقف ولكن ليس من الطبيعي الإصطفاف دون إرادة واعية وتحت القهر أو التعتيم أو التخدير فيصبح اتخاذ المواقع والمواقف المصيرية تماما كالميل الجارف لفريق كرة قدم دون غيره. صاحب الرأي لا يساق ولا ينساق.
الأكيد أن الحديث عن العلم والفكر والإيمان أمر لا يخلو من التعقيد ولكنّه يزداد تشعّبا والتباسا عند التطرّق للدين : في أجواء من الإنغلاق والتوقير الرهيب نرى البعض يحملون صفة العلماء عن علوم لم تتطوّر منذ أكثر من إثني عشر قرنا، ونرى فكرا ممنوعا على من لا يحملون لقب العلماء فتغلق الحلقة المفرغة ويبقى الحال على حاله؛ علم مقطوع وفكر ممنوع.
والحلّ ليس في الإنحلال ونسف الحدود ولكن في فتح المجال لكلّ من كدّ وجدّ وكان له نصيب من الإطلاع والمعرفة.
وانطلاقا من العقيدة العلمية للبشرية جمعاء والتي تتمثّل في الإيمان الجازم بخضوع الكون لقوانين علمية إعجازية تتعدّى حدود ذكاء الإنسان وخياله، يقف الفرد منّا في مفترق طرق: إمّا التسليم بوجود خالق للكون والقوانين وهو الله الذي بعث للبشرية رسلا وكتبا وديانات، أو الإلحاد.
وإن بدا أنّ المؤمن لا يتمكّن من توفير وضمان الإجابة على كلّ تساؤلاته، اختيار الإلحاد أشحّ بكثير في هذا الجانب. فالإلحاد يعتمد أساسا على الإنكار والتكذيب والرفض لا على تقديم حلول وبدائل مقنعة. ويغلب على الظنّ أنّ الإلحاد المطلق غير موجود في الواقع أو أنّ وجوده استثنائي ونادر. كما يرجّح أنّ ظاهرة الإلحاد لا تعدو أن تكون نسبية وتتمثّل في ضعف حادّ في الإيمان، أو حالة من حبّ الإنزواء والتفرّد ونزعة لامبالاة وربّما توق إلى الرفض والتمرّد.
وفي إطار التنسيب من المؤكّد أنّ الإيمان درجات وليس بالأكيد ارتباط قوّته بكمّ الإجابات المقنعة ولكنّه أمر يتعلّق إلى حدّ كبير بعناصر ذاتية: “يؤمنون بالغيب”.
ولو حاولنا تمثيل الوضعية وتقريبها للأذهان لاعتبرنا أنّ للمؤمن لعبة تركيبية كبيرة ومعقّدة، لديه الصورة التي من المطلوب التحصّل عليها ولديه القطع مبعثرة وفيها بعض التفاصيل والإشارات التي تؤكّد انتماءها للصورة. ليس عليه إلّا محاولة إعادة تركيب ما يتسنّى له من تلك الصورة.
في هذا المستوى وليس بعيدا عن الموضوعية سيقع اعتبار أنّ الإسلام والقرآن هما المرجع والقياس. فالإسلام هو الديانة الخاتمة ونصّ القرآن محفوظ وهو الوصية الأخيرة.
ولسائل أن يتساءل: لماذا لا تكون كلّ الأمور جليّة في الدين ؟ هل لأنّها بطبعها معقّدة وليس من الوارد التمكّن من الإحاطة بها شأنها شأن العلوم، أم هو جزء من حواجز الإختبار، أم هو الأمران معا؟.
في كلّ الحالات على العقلاء الإتّفاق: لايمكن أن يبعث خالقنا ذو الإبداع والإعجاز المطلق برسالة هداية وموضوع اختبار مرتبكة الشفرات وفيها التباس. ليس المطلوب من أيّ كان تفسير كلّ الجوانب وتوفير كل الحلول لأنّ ذلك مستحيل على الأفراد والأجيال ولكن المطلوب عدم ارتكاب أخطاء أصولية ومنهجية، أخطاء تربك المسار وتصنع آليّة لإنتاج الأخطاء. ومن الأخطاء الأصولية المشار إليها النسخ بين آيات القرآن الكريم والإعتماد دون الحذر الكافي على أحاديث لم يتكفّل الله بحفظها وعلى أحداث تاريخية غير يقينية أو أنّ علاقتها بالتشريع غير ثابتة.
سئل واحد من أكبر قواد الأركسترا عن تكوينه ماذا علّموه فأجاب: علّموني الأخطاء التي يجب تفاديها.
على المحافظين المتشبّثين إدراك أنّ بعض الأثر الموروث ليس من”أركان البيت ” بل هي أصنام يجب تحطيمها.