الرسالة
عند التطرّق للموضوع لابد من المرور عبر مساحة العقيدة والإيمان. والمعنى المقصود هنا من الإيمان هو نقيض الإلحاد أي إجمالا هو الإيمان بإله واحد خلق الإنسان والكون بأسره وبعث بأنبياء ورسل عبر التاريخ يهدي عن طريقهم البشر للإيمان به وطاعته. المعنيون بصفة عامة هم المسلمون وأهل الكتاب من يهود ونصارى.
ودون الإبتعاد عن الحياد العقائدي، يمكن الجزم فكريا بأن الإسلام هو الممثّل الشرعي (بمعنى الاستيعاب) للدين بوصفه الرسالة الخاتمة وبحكم كونه يقرّ بالديانة اليهودية والمسيحية ويؤمن بنبوءة كل الأنبياء والرسل السابقين لمحمّد صلى الله عليه وسلّم. أما من موقع إخواننا اليهود والنصارى فهناك أمران: إما أنهم ينكرون الرسول محمد والإسلام على طريقة لا أسمع ولا أرى أو أنهم يقرّون به لكن من المنظور العلمي لا يطّلعون على أحدث الإصدارات ومن المنظور المعنوي لا يتّبعون الوصية الأخيرة. وفي كلتا الحالتين، موقعهم لا يستوفي شروط القوامة المنطقية وينفي عنهم إستحقاق الإحتواء والتمثيلية.
لقد تعاقبت وتطورت مختلف طرق الإتصال “العمودي” عبر التاريخ البشري فاصطفى الله من بين عباده الأنبياء وبعث الرسل لمجموعات بشرية محدودة دون كتب سماوية ثم بعث موسى وعيسى عليهما السلام بالتوراة والإنجيل وهي كتب أنزلت معنى ولم تنزّل نصّا فلم تصمد حيال التحريف.
وفي الختام كان الإسلام الرسالة المتوّجة الناسخة والنهائية التي وجّهت إلى كل البشرية وإلى آخر جيل في الحياة الدنيا.
لعلّ الطرافة أنجع الوسائل لحمل العقول على الجد.
كانت الأم تراقب ابنتها ذات الثلاث ربيعا وهي تخط أمواجا وأشكالا على ورق فتسألها: ماذا تصنعين؟ أجابت البنية: أكتب رسالة إلى ابن خالتي. فلاحظت لها:
ولكنك لا تجيدين الكتابة! أردفت البنت: لا يهم فهو لا يجيد القراءة.
عندما يكون موضوعنا هو الرسالة ،بالإضافة إلى الرسالة في حد ذاتها وما تحتويها هناك طرفان: المرسل أو الباعث ومتلقّي الرسالة. وبالطبع بالنسبة للرسالة السماوية لا يمكن أن نكون إلا من يتلقّون الرسالة ويعملون على استيعابها وفهمها وفكّ رموزها.
باعث الرسالة هو الله سبحانه جل وعلا، فاطر الكون الخالق المبدع القادر الحكم العدل، نقرّ بذلك فكيف نستكثر عليه التوفيق والحكمة المطلقة في توجيه الرسالة؟
الرسالة هي حتما أقرب ما يكون من رسالة مضمونة الوصول، مؤمّنة، محمية من التحريف والضياع وأبعد ما يكون عن مخطوط في قارورة ترمى في البحر.
إن التعمّق في هذا المعنى واستيعابه بالتمام يوفّر على المتلقي الوقوع في عدّة أخطاء خطيرة منها الموروث ومنها المستحدث. ففي ميدان متشعّب كميدان تقبّل وفهم الرسالة السماوية من المفيد جدا معرفة ما لا يجب أن نفعل. علينا انتهاج الإستباق المنطقي: لا نبحث عن حقيقة رسالة الإسلام في مواقع يشوبها الالتباس، غير محمية وغير مؤمّنة من التحريف. إن بدت الفكرة هامشية أو غير واضحة المعالم للبعض، فلعلّ بقية المقال تساهم في إعطائها الموقع والحجم المستحق.
بالطبع لا حديث عن رسالة الإسلام دون الحديث عن القرآن الكريم. القرآن كما هو معلوم ليس فقط كلام الله بل هو قوله أي أنه أنزل نصّا من تأليفه سبحانه بلسان عربي وتكفّل بحفظه للنأي به عن إمكانية التحريف كنص. إضافة لذلك، يحتوي القرآن على معجزات بلاغية وعددية وعلمية. تلك المعجزات هي بمثابة حجج ودعائم مباشرة قائمة عبر العصور تتحدّى الزمان والمكان بل تزداد بمرور الزمن وتطوّر العلوم والإكتشافات.
وإن كان القرآن كتابا سماويا مقدّسا محفوظا كنص ففي تركيبته كذلك عوامل ترمي إلى حفظ معانيه الأساسية، إذ أن مناعة النص من التبديل لا تحمي المعاني من التحريف.
أوّل خاصية للقرآن الكريم اللغة العربية ،والدارسون للغة العربية من العرب وغير العرب يعرفون ثراءها الكبير. فتعداد كلماتها بالملايين مقابل غيرها من اللغات التي في أفضل الحالات لا تتعدّى مئات الآلاف. ونفس المعنى يعبّر عنه بالعربية بعديد المرادفات غير المتطابقة والتي توفّر إمكانية دقيقة جدا للتعبير فتنأى بنا عن الخلط والالتباس. وإن كان الإشتقاق من مقوّمات جلّ اللغات فهو في اللغة العربية سلس وأكثر شمولية ومنهجية يرتكز على أسس وقواعد منطقية توفر الإثراء مع التيسير،فيكفي أن تعرف الجذر لكي تتمكن من عديد الكلمات.
اللغة العربية هي أغنى وأفضل لغة على الإطلاق ولكن لكي نبتعد عن المقارنات وشبهة التعصّب والذاتية، لنا أن نجزم على الأقل بجدارتها وكونها يمكن التعويل عليها لحمل الرسالة الربانية ( فما بالك ما دون ذلك). ومن منظور آخر ليس من الحكمة الإسراع إلى التقديس فلا نقول إن اللغة العربية مقدّسة لأنها لغة القرآن بل نقول إن الله جل وعلا اختارها لأنها جديرة بذلك وتفي تماما بالحاجة.
من عقيدتنا الثابتة أن القرآن الكريم أنزل في شهر رمضان ليلة القدر بكامل سوره المائة واربعة عشر مرتّبة من السماء العليا إلى السماء السفلى، ومن عقيدتنا الثابتة أيضا ومن ثوابت التاريخ أنه أوحي إلى الرسول منجّما أي مقسّما على مدى سنوات الوحي الثلاث والعشرين في ترتيب مغاير لترتيب المصحف.
وهذه الخاصية حكمة إلاهية وهي أداة من أدوات الرسالة رافقت الرسول والصحابة طيلة سنوات الوحي ودعمتهم حتى غرست ركائز الإسلام على الأرض إلى الأبد وأمنتها من الناحية الجيوـ تاريخية. الحكمة من نزول القرآن منجما تلوح في مسألتين اثنتين: التدرج والمرافقة. إن الجيل الذي تعايش مع نزول الوحي هو حقا حالة استثنائية وفي غاية الأهمية، فكانت ضرورة التدرّج حسب المراحل والواقع التاريخي والعقائدي والاجتماعي لذاك الجيل فلم تفرض العبادات إلا بعد تركيز العقيدة ولم تنزل آيات الأحكام إلا بعد الإستقرار الإجتماعي والسياسي في المدينة (السور المدنية). والقرآن هو كل لا يتجزّء وفكرة التدرّج تنحصر في مرحلية نزول الآيات وكل المعاني تنسجم ولا تتنافس.أما في حالة إقرار مجال ممكن من عتبتين ،فهذا ليس اختلافا بل تكامل:
“يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لايفقهون (65)
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين” (66) الأنفال .
ومن نقاط الإعجاز في القرآن سبق القوانين والأحكام للواقع والتجربة المعاشة. ففي الحالات المعتادة يسبق التحضّر القوانين فتكون هذه الأخيرة حلاّ للإشكاليات التي تبرز أثناء التنظّم والتعاملات الإجتماعية المعقّدة. في الواقع التاريخي لمجتمع الوحي، كانت الحياة والمعاملات بسيطة إلى أبعد الحدود فكانت هنالك طفرة من التشريعات والأحكام وكان من الأهمية بمكان تزامن نزول جزء منها في مناسبات معينة كإطار لتيسير التفاعل معها واستيعابها.
وخاصية الوحي المنجّم بقدر ما هي ثابتة ومبنية على اعتبارات الحكمة والإعجاز، هي نسبية وقد فهمت أحيانا دون تدقيق في الكم والكيف فصار البعض يتصوّر القرآن كيوميات فيها تفاعل وردود أفعال أو كورشة لتطوير الأحكام وانزلق الكثير من فكرة المناسبتية إلى فكرة السببية. وتدهورت الأمور إلى حدّ بروز فرضية النسخ، فرضية ليست خاطئة فحسب بل هي خطيئة لولا التماس حسن النية. إن إقرار النسخ بين آيات القرآن استنقاص مخجل من الحكمة والقدرة الإلهية ؛ صاحب الرسالة هو العلي القدير، فلا يمكن أن يحتوي القرآن الكريم على تناقض أو اختلاف أو التباس وفرضية النسخ تأسس للفوضى والغموض فتدفع ذوي النية الحسنة إلى الإرتباك وارتكاب أخطاء جسيمة في فهم القرآن وتسمح للبعض بالتلاعب الخطير بمعانيه ومن نتائج هذه الدسيسة الفوضوية تجريد القرآن من بنائه المتماسك المنطقي واعتماد آلية تفسير مغلوطة تحرّف المعاني وتفتح بابا للجدل الباطل العقيم حول تحديد الآيات الناسخة والآيات المنسوخة التي تعتبر حينذاك لاغية. (الرجوع إلى مقال كرة الثلج)
غير بعيد عن ذلك وفي إطار نزول الوحي منجّما، لا يمكن أن ترتهن المعاني المفصلية في القرآن لروايات بشرية تاريخية غير قطعية الثبوت أو أن ثبوت علاقتها بالآيات التي تزامن نزولها آنذاك غير قطعي. والهوس بمحاولة ربط كل أو جل آيات الأحكام بوقائع معينة غير مبرّر خصوصا أن في الآيات المعنية تأطير للمواضيع المطروحة كما ورد مثلا في سورة المجادلة.
صاحب الرسالة لا يمكن أن يرتهن رسالته لذاكرة الناس واجتهاد المؤرخين.
عند الحديث عن رسالة الإسلام ومباشرة بعد القرآن الكريم لا بد من التطرّق إلى السنّة النبوية، مسألة متشعّبة بحجم مجلّدات ولا مجال للتلخيص، إلا أنه يتسنّى لنا تحديد بعض الزوايا المعنية بموضوع المقال.
مع إجلالنا وتقديرنا للرواة والحفّاظ والجامعين ورواد علم الرجال والمؤرّخين،لا يمكن لعاقل أن ينكر أن روايات الأحاديث والسيرة النبوية غير قطعية الثبوت، فلم يتكفّل الله بحفظها كما تكفّل بحفظ القرآن الكريم. هذا لايمنع أن الكثير والكثير منها يمكن أن تعتبر ثابتة ولكن كونها غير محفوظة يستدعي بعض التحفّظ.
ومجال السنة النبوية يتعدّى مجرّد توضيح تفاصيل العبادات بل يشمل تفسير وتفصيل الأحكام وبناء صورة تطبيقية وعملية للأخلاقيات والإنسانيات ولكن، انسجاما مع الفكرة الأساسية للمقال، وجب التحفّظ. والتحفّظ ينقسم إلى بابين:
أولا أن يكون معنى الحديث منسجما تمام الإنسجام مع القرآن الكريم، وهو مبدأ يقرّه الأغلبية الغالبة ولا يفعّله إلا القلّة القليلة.
ثانيا لا ينبغي اعتماد الأحاديث التي تعنى بالتجاذبات الإقتصادية والسياسية وشتّى المواضيع التنظيمية الحسّاسة التي تمسّ المصالح الذاتية والأنانية للناس، وأبرز مثال: مقادير الميراث لم ترد في السنّة بل وردت مفصّلة في القرآن الكريم وهي مسألة تحوم حولها الأطماع ورغبة التحريف والتدليس، عكس مقادير الزكاة الواردة في الحديث وإن كانت تعتبر ركنا من الأركان الخمسة للإسلام، فهي عبادة سرّية يمكن للراغب عنها أن يمتنع ويخفي ما شاء دون اللجوء إلى تحريف النص.
(الرجوع إلى مقال: بين القرآن والسنّة …) فلا يمكن أن يأتمن المولى عزّ وجلّ قوانين العدالة والسلم الإجتماعي لمهبّ أهواء الناس وصراعاتهم.
صاحب الرسالة والمعنيّ بضمان بقائها واستمراريتها دون تشويه أو تحريف هو الله مالك الدنيا ومالك يوم الدين، هو القادر المعجز، رسالته موجّهة إلينا وعلينا الأخذ بها والبحث فيها والبحث عنها بين مناهج الحكمة والعلم والمنطق، بعيدا عن التعصّب والتقليد والتبعية، بعيدا عن قوارير في البحر رماها ربّان تائه يطلب النجدة.