الجهـــل المقــدّس
من المصطلحات التي اندسّت في ثنايا قلمي وتوارت في قاع ذاكرتي ثمّ تسلّلت الى الورق في مقال أو اثنين دون اذن منّي بل في غفلة منّي وقد أتساءل من أين جئتُ بهذا المصطلح فلا تُسعفني الذاكرة، ولا أتذكّر شيئًا.
ولكن مصطلح الجهل المقدّس، أتذكّر بأنّني تلقّفتُه من مقال “بالقدس العربي” “لواسيني الاعرج” منذ سنوات قليلة. وقد كان البعض ينسبونه الى المفكّر والباحث الاكاديمي محمّد اركون – رحمه الله – وهو جزائري الأصل فرنسي الثقافة واللّغة، أمّا صاحب المصطلح الحقيقي، فيُدعى أوليفيه لوروا أصغر من محمد اركون بعشرين سنة تقريبا وهو فرنسي الأصل واللّغة، وقد نشر كتابا بهذا الاسم “الجهل المقدّس أو زَمن الديانة بلا ثقافة”
ويتحدث لوروا في كتابه عن البشرية التي تُنتج سلسلة من المعارف الانسانية تُنسبها في الأخير الى النّص المُقدّس فتصبح امتدادًا للدّين وتتحوّل الى عقائد لا يُمكن الفكاك منها.
فالعقائد هي نتاجُ المجتمع وبناءٌ اجتماعي تاريخي فهي لم تنزل من السماء، بل هي ثقافة دينية كرّسها المجتمع دون تحليل تاريخي وكرّستها المناهج التربويّة في الدول العربية وفرضتها على المجتمع
اذن فالجهل مؤسّس، أسّسته الثقافة الدينية، واختارت له أحداثا ووقائع واختارت له قادة وأبطالا عظاما.
دعني أعترف بأنّني لا أستطيع الحديث طويلا في هذه المواضيع الجادّة كل الجد، وأن أكتب بأسلوب جافّ خشن هو أقرب منه للبحوث العلمية، فيها التفسير، وفيها التحليل وفيها التاريخ.
عادة، أريد أن أرسل قلمي على سجيّته وعلى سجيّتي، وأن أستلهِم في ذلك روح الحبّ والفنّ والجمال، حتّى يُقبل عليه القارئ بنفس روح الحب والفن والجمال أيضًا، وهو ما يُسَمّيه طه حسين بالأدب الانشائي في مؤلفه “في الأدب الجاهلي” وهو هذه الآثار التي يُحْدِثها صاحبُها لا يريد بها الا الجمال الفنيّ وهو هذه الفنون التي تمثل ناحية الجمال في نفوسنا :
أراني مضطرّا أن أعود الى الجهل المقدّس وقد أقول العنف المقدّس فلا شيء أكثر فتكا بالمجتمع من الجَهل الذي ينتصر على العلم والمعرفة، وينتصر على النّور والحب، وينتصر على ثقافتي التسامح والتعايش.
وقد أدّى بنا الجهل المقدّس الى خلق داعش وكثير من الفرق المتطرّفة التي تخطف وتقتل تحت جنح الظلام وتَسْبِي النساء وتَبيع الجواري والأطفال..
وأدّى بنا الى عشرية صعبة دموية في الجزائر قُتل فيها الكثير من العلماء ومن المثقفين قتلا شنيعا، وهَرَبَ البعض الى أوربا وفرنسا خاصة وأدّى بنا أن نُكفِّر بعضنا بعضًا ونتّهم بعضنا بعضًا بالخروج عن الدّين.
لماذا تذكّرت مقال واسيني الاعرج في هذه الأيام، فصرتُ أنبش فكري وذاكرتي أيّاما فأعْيَتْني الذاكرة ولم أصل الى شيء فاندفعت أفتش عنه بين بقايا جرائد مكدّسه هنا وهناك.
قد يكون مرَدّ ذلك موضوع السحر الذي شغل البعض منذ أشهر هذا السحر الذي ارتبط بالقبور، فصارت هذه القبور تفتح للتداوي وابطال مفعول السحر، وللعثور على الكنوز المخبّأة ولكن الشيء الذي حيّرني وأدخلني في نوبة من القلق وربما من الجنون هو هذا التناقض، بل الصّراع الداخلي الذي يعيشه البعض بين العلم والسحر وبين الممارسة اليومية للعلم والمعرفة والسّقوط في متاهات السحر.
أحدُهم أستاذ جامعي بل وعميد لاحدى الكليات، خرج من عائلة متواضعة جدّا، كان طويل القامة، معتدًا بنفسه يملك سيارة، تعطّل زواجه لأسباب ما، فدفعته أمه ليتعامل مع بعض المشعوذين وتمرّ الأيام والسنوات، فاذا به يُدمن على زيارتهم ويَبْذلُ في ذلك المال والصحّة، فصاروا يَبيعونه الوهم (الماء وأشياء أخرى) بمبالغ ضخمة…
لقد أخذوا ماله وسيّارته، فركبته بعض الأمراض، ثم أفلس وصار لا يستطيع أن يُلبيّ حاجاته الضرورية للحياة ثم يموت فجأة ولم يبلغ الأربعين.
أليس هذا جهلٌ مقدّسٌ، سقط فيه شابٌ مشفقٌ الى حدّ الموت تغلّب عليه الجانب الخُرافي والاسطوري على الجانب المعرفي والعلمي الذي أمضى عُقُودا لاكتسابها والتشبّع بها.
أنا أشفق على كل مَنْ سقط في فخ الجهل المقدّس عن وعي أو لا وعي وترك جهلةً وظلاميين ينهشونه بلا رحمة.
لا أدري هل فكّر أوليفييه لوروا في هذه الظّاهرة التي تعيش في الدول العربية الاسلامية، ولا أدري هل يستطيع عالم الاجتماع وعلماء النفس أن يُفسروا هذه الظّاهرة وان يُسهبوا في ذلك أيما اسهاب.
ولا أدري أيضا هل نسي محمد اركون هذه الظاهرة التي تعيشها أيضا الجزائر ومازالت، وهي نِتَاج لاستعمار استفحل لسنوات فكبّل العقول، ونِتَاج لِنمط تعليمي قدّس الخرافة والاسطورة وسار على نَهجها.
الأكيد أنه لم يُفكّر في هذه الظاهرة من هذا الجانب، ذلك انها تسير على الهامش بل على حافّة مشاهد الجهل المقدّس.
بقلم : عبد الكريم الحشيشة