الأستاذ عبد السلام القلال: الحنين إلى مرابع الصبا وعشق الثقافة !
ارتبط الأستاذ عبد السلام القلال بعلاقة تاريخية وإنسانية ووجدانية، وثقافية ورمزية بصفاقس. وظل صامدا في عشقها، حتى أمام تقلبات الزمن عليها، وما أكثرها؟. كتب عنها مقالا يحمل إخلاصه لهذه المدينة عنونه:”صفاقس المنكوبة، إلى أين، وإلى متى؟” ويبدو أنه عمل خيرا بفتح بيت عائلته وبرجه إلى أهل الثقافة والأدب والفكر والفن منذ 17 ماي 2008. فقد بقي هذا البرج، الحاضن الدافئ والضامن لهذه العلاقة على مدى 15 سنة.
اشتغل بصفاقس بعد تخرجه في مجال الحقوق من باريس سنة 1962، ثم غادر مرابع صباه وطفولته بعد عام واحد إلى العاصمة. والأستاذ عبد السلام القلال أرستقراطي النشأة والأخلاق. كان دستوريا بورقيبيا في بداية حياته، وبقي إلى اليوم كذلك. اشتغل في المناصب العليا للدولة لفترة تزيد عن 10 سنوات ثم أعرض عن السياسة، وبقي وفيا لجهته ولوطنه. هو محام، ولكن أيضا كاتب جرئ، منحاز إلى الثقافة والعلم بلا حدود، ويحدوه النظر دائما إلى الأمام، فيبصر أبعد من عتبة برجه الواسع. وفي مساره الحياتي كان دائما مؤرّقا بهاجس التجديد والحداثة والإصلاح والتنوير.
يذكّرني ما صنعه بالكاف ثقافيا، عندما كان واليا عليها، بخريطة طه حسين الثقافية في مصر عام 1938، وبجابر عصفور في استراتيجية مصر الثقافية في بداية القرن 21. كلّ من عرفه أول مرّة وجالسه أوحي له بالسكينة والطمأنينة، وأعطاه من لسانه حلاوة الكلام، ومن عقله عمق التفكير ورجاحته.
“فرسان” من صفاقس …
والأستاذ عبد السلام القلال كتب نصوصا موثّقة رائقة، مكتوبة بلذّة وبشحن معرفي كبير، عن العديد من “فرسان” هذه المدينة، وستظل هذه الكتابات مترسّخة في “قاموسها”، لما فيها من قيمة وفائدة وصدقيّة. وقد استعاد فيها ذكرياته معهم في الدراسة بصفاقس، وبالمعهد الصادقي، وفي باريس، وأثناء بناء الدولة التونسية بعد الاستقلال، وتحدّث عن جوانب من حياتهم وتجاربهم وتأثيرهم. ويتعجب الانسان كيف بقيت هذه الأسماء حاضرة بقلبه وعقله وكأنها تعيش معه إلى اليوم؟ وخطّ في هذه النصوص جيّد الكلام ولآلئه، فأصبحت مرجعيّة مناسب جدا للأخذ منها. يتعلّق الأمر بمصطفى المصمودي، ومصطفى الفارسي، وعبد العزيز عشيش، وعلي البقلوطي، وعبد المجيد شاكر، وحمادي العقربي، ومحمد بكور، ومحمود خروف، ومحمد العش، ومحمود الفخفاخ، وإسماعيل البقلوطي… وغيرهم.
وفي محصّلة القول، الأستاذ عبد السلام القلال، الذي عرفته وسمعته كانت تطال عنان السماء، يمثل بالنسبة لي صورة العقل الجاد والهادف، الذي يراهن على أسئلة التجديد والانفتاح والحوار، وحضوره الثقافي والمؤسساتي، يضفي قيمة على كل المناسبات لمداخلاته الوازنة والعقلانيّه، والجسارة الفكرية والحكمة والهدوء. ولهذا لم ير الأستاذ الشادلي القليبي أفضل منه وزيرا للثقافة من بعده، فكان برج القلال “وزارته”. وقناعته أن دور الثقافية يتوفق على ما عداها من أدوار وهو أنها تجعل حياتنا أكثر ثراء وأكثر جمالا، وبهذا المعنى تكون الثقافة الثروة الإبداعية للأمم، كما أنها تعزز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتعمل على إثرائها.