احمد بن صالح لن يتكرر
.. لما يطل علينا شهر أكتوبر في ظل أزمة اقتصادية تدك أمريكا بعد التباهي بالعولمة واقتصاد السوق تعود بنا الذاكرة لشهر أكتوبر سنة 1964 لما شهدت تونس انعقاد المؤتمر السابع للحزب الحاكم في مدينة بنزرت والذي شهد تحولا في الشكل والمضمون: ففي الشكل: صار الحزب الحر الدستوري يسمى بـ “الحزب الاشتراكي الدستوري”، إما في المضمون فقد قرر المؤتمر تبتي مبدأ تعايش القطاعات الثلاث.. الحكومي والتعاضدي والخاص مما يعني انقلابا في المذهبيات.
كنا نحن الشباب في ذلك الزمان نعي هذا القرار كل الوعي، لقد صادف ذلك الإجراء هوى في نفوس الكثير من أهل العلم والفكر والفن، من المتأبطين للكتب والصحف، من المعاشرين بالحس والوجدان لرموز المعاصرة والحداثة. كان القرار فتحا لهم على نوافذ الكون وعروجا بهم لحياة القيم كما جاءت لدى أصحاب الفكر الحر فانتشى الماركسيون والترتسكيون والماويون والآفاقيون.. وانخرطت النخبة في المنهاج وساروا في الطريق..
لكن ولان قوة الجذب إلى الوراء لم تركن، ولان الخبرة في اقتحام الصعاب كانت في أدنى درجاتها.. وقعت النكسة التي لم تكن خيبة أمل في سلامة الخيار بقدر ما كانت خيبة في وسائل تحقيق الأهداف، لم تكن خيبة آمل في قدرة المسؤول على العمل بقدر ما كانت خيبة في قدرته على تطويق الماكرين الحاسدين الطامعين في الكراسي.
واسقط في أيدينا نحن الذين تحمسنا من أعماقنا للمشروع اقتناعا تارة وانضباطا تارة أخرى.. مشروع تبناه الرجال وناوأه الأنذال.
قال بورقيبة يوما: “إن سير التعاضد على هذه الوتيرة يقربنا من أهدافنا، وبما انه لا بد من الاعتراف بالجميل لذويه فاني أقول إن الفضل الكبير في هذا العمل يرجع للسيد احمد بن صالح، وأنا عليم بأنه في غنى عن هذا التنويه ولا يسعى إليه، بيد أني أحب أن أوفيه حقه لان كثيرا من الناس ينتقدونه “.
وقع ما وقع ودارت الدوائر على بن صالح وسحب من تحت رجليه البساط، وكان كبش فداء لسقطات لم تكن من صنع يديه. وتحول الخيار إلى نظام اقتصادي آخر لم يؤمن السلامة والأمان لصاحب المال ولا العزة والكفاية للكادحين على مر الأزمان.
أما بن صالح فقد تربص به المتربصون الذين قال فيهم جعفر ماجد: “مثلهم مثل صخرة وقعت على فم النهر فلا هي تشرب ولا هي تترك الماء يخلص للزرع”. وانشد:
يسود بحكم العسف غر وجاهل
وتــــؤكــل أكباد لنـا وقــلوب
وتهــتك أعراض الحـياة بخدعة
وتمـــلأ من خبز الفـقير جـيوب
كـذلك أعناق الزهور ندقـــها
إذا فاح من غصن البراعم طيب
وليــس غريــبا ان تــرد نـــبوة
فـكـــل نــبي في ذويــه غــريب
ولـــم يعرفوا أن الحـياة عقيــدة
ولم يـعرفوا أن السكوت هروب
وما كانـت الأفكار ثـوبا نحـطه
ونخـــلعه حــين العـراء يــطيب
ستســقط أصنام الطــغاة وتلتـقي
قريــبا على درب الحـياة شعوب
ذهب التعاضد إذا بكل ما كان يحمله من أمل في حياة شعب تعوزه مصادر الثروة الكبرى، وتردى الخيار الاقتصادي في قاعدة: “زيد الماء…زيد الدقيق”.
واليوم وقد بدأت المنابر تقام في إرجاء المعمورة لمحاكمة الرأسمالية التي تكاد تذهب بالثروة وبالرجال، اليوم هل يحق لنا أن نرد الاعتبار لرجل لم يبخل على وطنه بكل ما كان لديه من قوة الفكر والساعد فنعطيه في حياته- أمد الله في انفاسه- العنب والعنقود معا.
(شمس الجنوب: 09 اكتوبر 2008)
التوفيق اللومي
**يبدو ان شعبنا من فرط كنوده بخل على “بن صالح”
يوم وفاته 16/09/2020 حتى بجنازة تليق بنضاله