الفنان علي الحشيشة: حياة عبقها الموسيقى
الأستاذ علي الحشيشة هو عميد الفنانين بصفاقس، والكتابة عنه تفرضها قيمة الرجل وعطاءاته. فله دور ثقافي كبير لأنه صاحب سيرة فنية واجتماعية خصبة. وهو مدرسة شامخة عمرها 54 سنة تخرجت منها أجيال من أهل الفن واستحدث من خلالها ثورة في العقليات وفي صورة الموسيقى لدى الناس. وقد شرف علي الحشيشة مدينته ووطنه لان تجربته الموسيقية تجاوزت الوسط التونسي إلى حدود عربية وآفاق عالمية.
النشأة
هو من مواليد 10 افريل 1938 بالمدينة العتيقة صفاقس. دخل المدرسة القرآنية ”الهداية” بنهج سيدي بلحسن(مقر الأمن حاليا). ثم انتقل إلى الفرع الزيتوني بالجامع الكبير تحصل منه على شهادة الأهلية. وواصل تعلّمه بجامع الزيتونة المعمور ختمه بنيل شهادة التحصيل في العلوم. وتحول بعد ذلك إلى الخلدونية ليعمق معارفه في المرحلة الثالثة والقبض على شهادة مدرس للغة العربية سنة 1957.
على الحشيشة كما رأينا من مواليد ”بلاد العربي” بها ولد وسكن وترعرع في 17 نهج الدريبة، ودرس بنهج سيدي بلحسن، وتردد على الزوايا (سيدي سعادة وسيدي علي الكراي وسيدي بلحسن….) وعرف الطرق الصوفية (العيساوية والعامرية والقادرية…..). لقد ظلت جمالية المدينة العتيقة راسخة في ذاكرته وتركت أصوات المنشدين في الزوايا ميولا في عواطفه إلى الموسيقى منذ نعومة أظافره . لهذا استجاب لنداء القلب والعاطفة ليواصل تعليمه في الموسيقى- بعد الحصول على شهادة مدرّس عربية- بالمعهد الوطني للموسيقى بتونس أين نسج خيوط التواصل مع قامات موسيقية آنذاك، نذكرعلى سبيل المثال لا الحصر: وناس كريم وخميس ترنان وصالح المهدي.. ونال علي الحشيشة في ذات الوقت دبلوم الموسيقى ودبلوم العزف على الآلات وأصبح مدرسا للموسيقى بالمعاهد الثانوية ثم متفقدا لكامل ولايات صفاقس والجنوب.
حياته الفنية
أنشأ علي الحشيشة العديد من النوادي الثقافية والجمعيات والفرق والمؤسسات الفنية :
– 1960-1961 أسس وأدار معهد الموسيقى بصفاقس بمقر جمعية اللخمية
– 1978 أسس وترأس الجمعية التونسية للتربية الموسيقية
– 1986 أسس وترأس جمعية نادي الفنانين المحترفين بصفاقس
وبفضله عرفت صفاقس1960-2015 نقلة نوعية في مجال الموسيقى وانتقلت من 5 فرق وأستاذ واحد إلى أكثر من 150 فرقة وأكثر من 1000 أستاذ في الوقت الحالي.
نشاطه العربي والدولي
بقي علي الحشيشة عضو المجلس التنفيذي للمجمع العربي للموسيقى التابع لجامعة الدول العربية من 1975-2001 . وكان رئيسا منتخبا لأربع لجان لمدة 16 سنة:
– رئيس لجنة التراث الموسيقي
– رئيس لجنة التربية والثقافة الموسيقية
– رئيس لجنة الفنون الشعبية(الفلكلور)
وبطبيعة الحال شارك في كل مؤتمرات المجمع ببحوث علمية وبمقترحات بالعراق وتونس والمغرب والسودان وسوريا ومعهد العالم العربي بباريس ومصر وليبيا …كما أصبح عضوا بجمعية أصدقاء رياض السنباطي بالقاهرة، ووقع تكريمه من منظمة التحرير الفلسطينية بليبيا، وقادته تجاربه الموسيقية ومعرفته العلمية إلى سويسرا والهند وكندا.
التأليف
مؤلفه المعروف هو السماع عند الصوفية والحياة الموسيقية بصفاقس في القرنين 19/20”، مطبعة سوجيك، سنة 2000.تحصل به على جائزة بلدية صفاقس للتأليف والإبداع سنة 1995. وقدم فيه صفحات قيمة من التاريخ الفني والاجتماعي بصفاقس خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
وللسيد علي الحشيشة مخطوط بعنوان ”رحلة في أنغام ذاكرة مسيرة” كتبه سنة 2015
ومن إنتاجاته الأخرى ”أصول الموسيقى الجز3” مع د. صالح المهدي، ومع آخرين كتاب ”الموسيقى لتلاميذ مدارس ترشيح المعلمين”.
ونذكر ان الطالب وليد المغربي اعد عنه رسالة ختم الدروس لنيل شهادة الاستاذية في الموسيقى والعلوم الموسيقية بتأطير من الأستاذ وليد الفخفاخ بالمعهد العالي للموسيقى بصفاقس. وأرجع الطالب هذا الاختيار للأستاذ علي الحشيشة بكونه أحد أعلام الموسيقى بجهة صفاقس ولمساهمته في تطوير الموسيقى التونسية والتعريف بها في البلاد العربية واعتبر أن الأستاذ علي الحشيشة قام بتجربة قيمة وثرية طوال حياته، هي نموذج للأجيال القادمة.
الاعتراف بدوره الموسيقي
بأرشيف الأستاذ علي الحشيشة أكثر من 100 شهادة تقدير وشكر ووسام. كرمته ولاية صفاقس بالحصول على جائزة محمد محفوظ للفكر والأدب والفن سنة 1992.وكرمته المندوبية الجهوية للثقافة وجامعة صفاقس في نفس السنة ، وكرمته بلدية صفاقس بإسناده جائزة التأليف والإبداع سنة 1995.
وكرمه مهرجان المدينة بصفاقس في 30 جوان 2015 لأنه ابن المدينة المدينة العتيقة ولأنه أحب مدينته ورفض النزوح عنها إلى العاصمة أو الهجرة منها إلى الخليج رغم الإغراءات المالية ولأنه بالخصوص حامل لمشروع موسيقي حضاري فقد اختار التفرغ إلى عمل جبار لنشر التعليم الموسيقي بصفاقس الجنوب والتعريف بالموسيقى التونسية خارج حدود الوطن ولأنه يمثل ”ديوان” و”وثيقة” الموسيقى بصفاقس.
وكرمته إذاعة صفاقس، ويحمل هذا التكريم الواسع لا شك أبعاد معنوية كبيرة واعترافا رمزيا بعطاءاته الفنية.
الخاتمة
هذا فيض من غيض وقطرة من بحر .لأني أرى في الأستاذ علي الحشيشة شموخ المدينة العتيقة وصمود وعزة ومجد أسوار بلاد العربي. استعاد معها التراث الموسيقي بكل رونقه التاريخي من خلال” تخت التراث” في اللباس والنغمة والآلات الموسيقية وخاصة الرباب التي طورها وأبهر بها العالم العربي والغربي. لقد بقي الأستاذ علي الحشيشة أكثر من 50 سنة في خدمة التربية الموسيقية والصناعة الموسيقية والتراث الموسيقي. ونحن إزاء فنان أراهن أن الموسيقى هي كل شيء بالنسبة له كالهواء والماء يعني هي وجوده في هذه الحياة. وعلاوة على ذلك يعطيك الأستاذ علي الحشيشة ”المفتاح” لفهم تاريخ الموسيقى وتطورها وأهلها بصفاقس من القرن 19 الى القرن 21. وأكاد أقول انه الوحيد الذي يملك هذا المفتاح فهو الذي أطلق العنان لكل طلاب المعرفة الموسيقية بصفاقس والجنوب.
وللأستاذ علي الحشيشة دور ثقافي كان عضوا بأسرة مجلة القلم ومنتجا بإذاعة صفاقس منذ تأسيسها ولولاه – كما يقول- لما تأسست فرقة الإذاعة الموسيقية وكان صديقا ورفيقا للأستاذ عبد العزيز عشيش أول مدير لإذاعة صفاقس.
والأستاذ علي الحشيشة غيّر العقليات بصمود ومكابدة لأن الموسيقيّ كان ينعت بأبشع الصفات وفي هذا الشأن قال عنه الأستاذ رضا بسباس في تكريمه سنة 1995:
يا من زرعت الفن في أعماقنا والفنّ في ذاك الزمان يعــــــاب
أخلصت في فنك يا عــــــليّ أنت عميدنا وسواك كلهم طـلاب
أما الأستاذ علي الحشيشة الإنسان فهو الفنان الصادق البشوش الذي يعطي بلا سخاء ولا ينتظر جزاء، وهذا شعاره في الحياة. آمن بالعمل التطوعي وبالمجانية وبخدمة الأهداف قبل الأشخاص وشريحة هذه الشخصيات لا تتكرر دائما.لهذا السبب أعيش منذ فترة قصيرة مع الأستاذ علي الحشيشة في سؤال وجواب ونسخ وثائقه والاطلاع على أرشيفه من وثائق وصور وشهائد وشهادات وأرجو أن أوفق في كتابة سيرة شخصيته الفنية التي هي سيرة جيل هو مجتمع صغير يصبح باتساعه إلى عقليات وتجليات وتمظهرات مجتمعا كبيرا.