الفنان التشكيلي منذر مطيبع يقدم معرض الفنون التشكيلية ” حدود الظلام ” ” Frontière des ombres “

حدود الظلال، هو العنوان الذي اخترته كعنوان لمعرض الفنون التشكيلية الذي أقيمه بالفضاء الثقافي فندق الحدادين. هذا الفضاء الذي أخترته للمرة الثانية بعد معرض الخزف الذي أقمته سنة 2013 تحت عنوان “المصامر المصددة”. وهو فضاء تاريخي مميز يعود بناءه إلى إلى العصر الوسيط حيث بُني داخل المدينة العتيقة بمحاذات الأسواق التي تفتح على “باب الجبلي”، وهو البان الذي يدخل منه ضيوف المدينة سابقا بغرض التسوق أو البيع . لذلك كان فضاء فندق الحدادين بالأساس فضاء تجاريا و”فندقيا”، قبل أن يتحول إلى ورشة ضخمة تضم العديد من الحرفيين في مجال الحدادة، ثم ليتحول إلى فضاء ثقافي دون أن تُنزع عنه صفته الحرفية القديمة في مستوى اسمه. وقد اخترت هذا المكان لعرض أعمالي التصويرية نظرا لتقاربه مع طبيعة المبحث الذي أشتغل عليه، حيث يلعب عنصر الضوء والظل والظلمة دورا كبيرا في تحديد خصوصية الفضاء المعمارية والجمالية، وأيضا لما تختزنه ذاكرتنا بخصوصه من علاقة بين لهيب النار وسواد الفحم الحجري الذي كان ينير المكان فيصهر الحديد الصلب والداكن ويحوله إلى مادة لزجة ومشعة تراوح ألوانها بين الأحمر والبرتقالي. تلك هي الثنائية التي تجمع بين السواد المولد للطاقة والالوان، أو كذلك بين حتمية الفناء المولد بدوره للحياة.


لقد مثلت علاقة المضيء بالمظلم أحد أهم هواجسي البحثية، حيث تبلورت في شهر ماي من سنة 2013 في شكل تنصيبة فوتوغرافية أقمتها برواق المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس تحت عنوان، أضواء داكنة، قدّمت فيها تعبيرا عن الأضواء والظلمة التي كنت أحس بها خلال تلك الفترة، إذ مكّنتني عدسة الكاميرا من التحكم في أطياف الضوء النقية والحارة التي جعلتها تتدفق من خلال أقمشة سوداء تنوعت أشكالها ومميزاتها، غير أنها اشتركت في مستوى حجب ألوان معينة بغية إظهار ألوان أخرى، حسب الضرورة التي يحتمها زمن التقاط الصورة، والخصوصية التي تميزها، وأيضا الرسالة التعبيرية والتشكيلية المراد إيصالها. هذه التنصيبة التي سبقتها تنصيبة أخرى أقمتها بساحة المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس في شهر جانفي 2013 التي حملت عنوان “ركوب” والتي كان للنار التي أوقدتها في أحد مكونات التنصيبة دورا كبيرا في كسر ظلمة المكان.


اخترت هذه المرة أن أسافر بهذه الهواجس البحثية إلى عالم الألوان الصبغية من خلال معرض اخترت له عنوان “حدود الظلال”، وذلك من أجل الكشف عن الحدود التي يمكنني بلوغها عبر هذه التقنية. لأني على قناعة بأن اختلاف التقنيات يمكّن من بلوغ حدود قصوى في التعبير التشكيلي. فلكل تقنية جمالياتها وأسرارها وحدودها التعبيرية. كما أني لا أؤمن بوجود فواصل بين الاختصاصات على مستوى التعبير التشكيلي. فالفكرة واحدة غير أساليب التعبير عنها مختلف باختلاف الأدوات والمواد والإطار الزماني والمكاني وأيضا النفسي والفيزيولوجي. ففي هذا المعرض، واصلت البحث عن مكامن الجمال التعبيري خارج حدود الأساليب النمطية لتناسقات تكون أكثر اتصالا بما تكتنزه ذاكرتنا من مراجع وأحداث، وما تتيحه لنا مخيلتنا من أفكار هي بمثابة انعكاسات لما نعيشه من مؤثرات. فعند ممارستي التشكيلية يراود ذهني أعمال وأقوال فنانين كبار تونسيين وأجانب من قبيل رسائل بول كلي وأقوال ديلاكروا وغيرهم الذين صنعوا أمجادهم عند اكتشافهم وتوظيفهم للضوء أو ثنائية الضوء والظل الذي وجدوه في تونس أو في شمال افريقيا بصفة عامة. هذا الضوء المليء بالطاقة والألوان يزداد حضوره من خلال السواد الذي يحيط به أو يحدده. وهذا ليس من قبيل الاكتشافات الراهنة بل نجد أثره في حضارات شمال افريقيا السابقة وخاصة الحضارة الفرعونية والقرطاجية، حيث وقع توظيفه في العديد من المجالات الجمالية والتزويقية على غرار إبراز جمال العينين من خلال الكحل الذي يزيدها بريقا وبياضا وجمالا.


كما تراود افكارنا أعمال الفنان التونسي الراحل لطفي الارناؤوط التي ركّز في جزء كبير من مسيرته التشكيلية على عنصر الضوء الذي يخترق الثقاب التي اختارها مدروسة ومحددة بصفة هندسية دقيقة. هذه الثقاب التي تثير فضولنا والتي وظّفها مارسيل ديشمب في أحد أعماله المميّزة التي اختار لها عنوان étant donné”” ، حيث لا يمكن للمشاهد رؤية جمال الألوان والأضواء إلا عبر ثقب في باب بالٍ وخال من الألوان.


هو سواد محرك للألوان وكذلك للظلال التي تنوعت وتمازجت، فأصبحت تعبر عن ما يختلج بداخلي من هواجس هي نتيجة حتمية لما عشته خارج حدود البلاد، وأيضا لما أعيشه من تأثيرات تخص بلادنا التي شهدت ولا تزال تقلبات سياسية واجتماعية عميقة، والتي كانت ولا تزال تمثّل أحد محركات بحوثي وكتاباتي. هي ترجمة لمشاعر عشتها بخصوص وطن بعيدا في المكان أثناء اقامتي خارج البلاد، ولكنه قريب في الوجدان. هذا الوطن الذي كان يمثل أحد أهم منارات العلم والمعرفة والحداثة قبل عشرات من السنين، نشاهده اليوم يصارع من أجل الخروج من سراديب الظلمات، مقابل بلاد كنت أقيم فيها تخطو بخطى سريعة نحو الحداثة والتحديث والتقدم.


هذه الألوان التي لم تختلف كثيرا عن سابقتها في مستوى التعبير عن الصراع بين الجوانب المظلمة في حياتنا، والجوانب المنيرة التي تحاول في كل مرة رفع الحجاب عنها وإظهار مفاتنها، تمثل بالنسبة لي شحنة الحياة التي أعيشها. فلا يمكن للحياة أن تستمر بدون الضوء بكل مكوناته اللونية والحرارية والجمالية، وكذلك، لا يمكننا تحسس هذه الخصوصيات دون تجربة فقدانها أو نقصانها. مفارقة هي بمثابة شعلة الحياة التي نصارع من أجل استمرارها على النحو الذي تكون فيه الأضواء الملونة زينة الحياة من جهة وأيضا الطاقة التي تغذي جميع مجالاتنا الحسية والتعبيرية.


