الارتقاء روحانيا في خزفيات الفنان سامي البهلول
المقدمة
إنّ المتأمّل في معظم أعمال الخزاف سامي البهلول يتراوح في مخيلته بأنّه قد التجأ إلى إبراز المراوحة ما بين الروحاني والتجريدي وأحيانا حتى السوريالي، وهنا وكأنّه أراد أن يلفت نظرنا وانتباهنا تجاه كلّ من العالم الظاهري والباطني، مستعينا في ذلك الانجاز بكتابة بعض الحروف وأنماطها المختلفة عبر المدّ والجزر، مبيّنا وحدة الوجود وزوال التناقضات وما اكتنزته ذاكرته من معارف بقيت مترسّخة في ذهنه، قد استعارها هذا الخزاف ليوظّفها بطريقته الممتزجة ما بين الواعي واللاواعي عبر رموزه اللاإرادية وما تضفيه من أبعاد جمالية تشدّ الانتباه والتثبّت في معانيها الروحانية.
فما هي الآليات التي حرص هذا الخزاف على استخدامها وما مدى تفاعلها وانعكاساتها في مختلف منجزاته الخزفية؟
لقد سعى هذا الخزاف إلى تأكيد خصوصية هذه الجدلية القائمة ما بين الروحاني والسوريالي بطريقته التجريدية والتجريبية معا، من أجل تأكيد تفرّد تجربته التي حاول فيها أن يبيّن غرابة الرؤية والكتابة، وما تضطلع به من رؤى تشكيلية متنوّعة ومختلفة باختلاف تنوّعاته في كلّ تجريبية من أطيانه المطلية سواء بالألوان أو الأكاسيد في ضوء وأفق متطوّرين بتطوّر وعيه الفكري، وما يستنتجه من منهجه التجريبي لاستنطاق روحانياته عبر ما يتحصّل عليه من تغيّرات ملمسية ولونية، وما يرنو إليه هذا الخزاف لإثبات ذاته المتفرّدة عن كلّ ذات خزاف آخر بما ابتدعه من تشكيلات متجدّدة ومتنوّعة بتنوّع وتجدّد تركيبته الطينية التجريبية التي خوّلت له الحصول على إمكانات لا متناهية وفق تطوّر منهجه المتسلسل سواء في أعماله الثنائية أو الثلاثية الأبعاد.
إذ أنّ كلا المذهبين الروحاني والتجريدي لهما إمكانية التواشج لإستخراج ما تعبّر عنه المادة الطينية وما يستنبطه مشكّلها من تغيّرات أو تبدلات مورفولوجية في اللون وربّما في الهيئة المشكّلة من طرف هذا الخزاف، حيث تبيّن لنا تجربته مدى التماهي لكلّ ما هو غيبي، من خلال عنونة أعماله خصوصا ومعرضه عموما الذي قد أبرز بأنّ هناك في مجملها عودة إلى أصل الخلق.
إنّ في مختلف أعمال هذا الخزاف هناك تلاقي فيما بينها من حيث عناوينها وأشكالها التركيبية والتشكيلية وحتّى اللونية على مستوى الرؤية الشمولية والنظر إليها، ولكن على مستوى الوعي الفكري نرى أنّ عناوينها مختلفة باختلاف غاياتها بحسب تكهنات مشكّلها الذي كان هدفه منها البحث عن المطلق والتماهي معه، وهذا في حدّ ذاته ما تجسّده تلك الأعمال التي تنحى إلى حقيقة الوجود وما هي إلاّ بمثابة ذلك العالم المحدود حدوده الفكر والخيال، كما أنّ في كلّ تجلّيا للعمل الآخر، يتجلّى له ويتجلّى فيه ويتجلّى منه ويتجلّى عليه، ويتجلّى معه، وفي هذه الحدود يتّضح المنحى الأساسي الذي تتلاقى فيه مختلف أعمال هذا الخزاف المؤكدة على مسلكها أو منهجها الروحاني أو مذهبها…
وبالتالي ينفتح للخزاف سامي البهلول عبر هذا المسار، عالما ليس محدودا وإنّما حدوده مدى وعيه الفكري والخيالي أيضا الذي ينفتح أمام اللامحدود واللامألوف، وكذلك اللامرئي الذي ينحو به إلى عالم منعزل عن العالم المعاش، إذ بهذا التمشّي تنحاز تجربة هذا الخزاف نحو عالم تتشكّل فيه عناصره، تولد وتنمو وتتعانق الأزمنة في حاضر حيّ، ممّا مكّنه في كيفية الإفصاح عن هذا العالم الروحاني الذي بدوره يشمل دلالات وأبعاد أتاحت له قراءة جديدة ونظرة تأمّلية بوصفها أداة كشف وتعبير معا، وهذا ما نتلمّسه في البعض من أعماله التي خيّرنا أن تكون شاهدا على تجربة هذا الخزاف.
تتميّز مختلف أعمال الخزاف سامي البهلول بأنماط متعدّدة ومتنوّعة من خلال ما استقاه من الدفق الروحاني والوجد الصوفي الذي يتّصف به الفنان شخصيا، وما استعاده لأطياف شفافة تتهادى في ذاكرته وكذلك لما اكتنزه من المظاهر الدينية التي لها صلة بالجانب الذاتي المتفاعل مع ما يوفّره المناخ الروحاني، ومدى تأثيره الواضح في الأساليب التشكيلية المعتمدة من طرف مشكّلها، والذي يتراءى لنا متداخلا مع بعض الحروف: (هو/ م/ ح…) وهي تدوّي بما تشتمله من أبعاد ذو معاني روحانية وتشكيلية أيضا، تستهوي المتأمل للتعمّق في مشاهدتها وفكّ رموزها واستنطاق واستنتاج تأويلاتها.
إذ نتلمّس في العمل عــ1ــدد تركيبا يدمج بين إمكانات المنجز الخزفي وتأثيرات الحروف المتلاشية التي قد توحي بعظمة الله عبر كلمة ” هو”، وذلك ما عبّر عنه أدونيس بأنّ « الله ليس الواحد إلاّ لأنّه الكثير، إنّه من الوجود، النقطة العليا التي يتوحّد فيها ما نسمّيه المادة وما نسمّيه الروح… فهو ليس الواحد الذي يخلق الوجود، من خارج ودون اتّصال به، وإنّما هو الوجود نفسه في حركيته ولا نهايته، ليس في السماء، وليس في الأرض، بل هو السماء والأرض معا متّحدتين… » ، وبهذا فإنّ الله هو القادر على إحياء الروح وعودتها وانبعاثها من جديد.
ويتوضّح هذا المنحى في العمل عـ2ـــدد، الذي ارتأى فيه هذا الخزاف أن يتّجه نحو أفق تجريدية عبر تلك العناصر المتداخلة بين المتناهي في الصغر وبين المتناهي في الكبر، والذي قد قام بتنفيذه بتقنية الخزف المطلي عبر مزج الطينة البيضاء مع أكسيد اللون البنفسجي وإضافة قليل من الكوبالت، الذي قد اختلف عن العمل الأول عبر ما أضافه هذا الخزاف من ألوان بنّية سواء فاتحة أو غامقة وإضافة أكسيد المنغنيز الأصفر.
إذ أنّ المنهج التجريبي لدى هذا الخزاف، قام على جملة من الاختبارات المتتالية للتمكّن من إيجاد فرضيات تجعله أكثر دقّة من خلال انفتاحه على المجال العلمي، ممّا يؤدّي به إلى تجاوز كلّ ما هو ثابت ومكتسب ليجد نفسه في عالم التجريب الذي فتح له آفاق متجدّدة وغير متوقّعة، وهذا ما قد ذكره الدكتور سامي بن عامر: « إنّ أثر الفنّ بالأساس لا متوقع، إنّه نوع من الصدفة يرأس إنتاج هذا الأثر » .
إذ يتبادل في ذهن هذا الخزاف تساؤلات تحثّه لوجود أجوبة عنها، وذلك قد استوجب مدى وعي الذات الفاعلة والمدركة لمختلف التخمينات، ولعّل ذلك ما صرّح به الناقد والفنان العراقي شوكت الربيعي بقوله: « كلّما اكتشف هذا الفنان أسرار التقنيات وغموض الجمال في المدركات، نتيجة التجربة والمعايشة لمواده، فتنطلق مرحلة التأمّل إزاء القوانين التي تحكم العمل الفنّي وتقرّر نجاحه والمدى الذي أضافت فيه قدرته كمبدع لتجربته السابقة » ، وهذا ما سوف يتّضح أكثر في مثل تلك الأعمال المتمثّلة بالعملين عــ3ــدد وعـــ4ـــدد.
حاول الخزاف سامي البهلول أن يطوّر منطلقه التجريبي من خلال مزجه وإضافاته لمختلف الألوان والأكاسيد وتغيير استراتيجياته في النظر للمشكلة أو الموقف الذي يعترضه من زوايا وجوانب مختلفة بحسب ما هو معروف عنه
كخزاف يميل إلى خاصية المرونة في تجربته، ممّا يؤهله لإعادة التريّث والتفكير في تشكيل منجزاته بطرق تكون أكثر تدقيق، إذ أنّ في كلّ بقعة لونية جديدة تضيف تأثيرات من التفاعل البصري مع كلّ الألوان والأكاسيد والأشكال الأخرى التي اتخذت مكانها الملائم. إذ أنّ المرونة « شرط أساسي للإبداع لأنّها تعني القدرة على التحكم والتغيير والمواجهة وتعديل المواقف وإعادة التنظيم وكلّها شروط ضرورية للإبداع » ، على حدّ قول شاكر عبد الحميد.
وهذا ما تجسّد في تجريب وتجربة هذا الخزاف الذي حاول أن يرتقي بنماذجه إلى التفرّد والتميّز عبر ما تطلّبته من فرضيات حتمت عليه التقيّد بما يسمح له بالتقدّم في تشكيلاته عبر إضافة الألوان والأكاسيد للطين والتي بدورها أضافت بعدا إبداعيا، بحيث مكّنه هذا الأسلوب من مزج العديد من الأكسدة وكذلك بعض الألوان، ممّا أحدث هذا تغيّرا على مستوى الطينة المستخدمة وما أنتجته من تفاعل وانعكاس على كلّ منجز خزفي من منجزاته، حيث اعتمد في كلا هذين العملين إلى إضافة نسب مختلفة من الأكسيد الأحمر والحديد واللون الأصفر والأزرق الفاتح إلى الطينة البيضاء، بينما العمل عـ4ـــدد مزج مع هذه الطينة أكسيد الحديد واللون الأحمر والبنّي الفاتح… فقد استغّل تقنية المادة/ اللون التي أضفت على كلّ منجزاته أبعادا جمالية وروحانية، أكّدت نباهة هذا الخزاف في توظيفه لنسب مدروسة مكّنته من حصول نتائج مبهرة، وهو ما برز في تلك التداخلات لبعض الجزئيات اللونية عبر ما أظهرته من عديد الجدليات كالتجاور والتركب أو التداخل والتماس…
الخاتمة:
تبقى التجربة الخزفية تواصلا مع التجريب هذا المصطلح الذي بدوره يساهم في تعميق المنهج المعتمد من طرف كلّ خزاف، وقد نستكشف في مثل هذه التجربة للخزاف سامي البهلول عدّة مفاهيم مضيئة مثل الحضور والاستحضار والظهور الذاكرة التي تأصّلت في ذهنه، وغيرها من المفاهيم التي تيّسر قراءتنا لهذه الممارسة الخزفية والتي تتوحّد وتتصالح مع الوعي الإدراكي لدى هذا الخزاف، كما ارتبطت بالمفهوم الروحاني الذي حضر في تجربته وهو ما يؤكّد مرّة أخرى على الاعتراف بوعيه الذي استطاع به المبدع أن يبني عليه مشروع ممارسته الخزفية والفنّية الفعلية.