أريج الكلام
عالم الخيول
لقد كلِفَ العرب بالخيول حتى أصبحت جزءًا من حياتهم، فلا تتمّ زينة الحياة الدُّنيا إلاّ بالخيول المسوّمة ولا تكتملُ مظاهر الشهامة والرجولة إلاّ بفرس أجرد سابقٍ الريحَ حتّى يكون راكبُه سلطان سَاحةِ الوغى
وعلاقة العربي بفرسه على درجة كبيرة من الحميميّة ولعل من أشهر القصائد التي وُصف فيها الفرس معلّقة امرئ القيس والبيت المشهور هو :
مِكرٍّ مِفَرٍّ مقبل مُدبِر معًا *** كجُلمود صخْر حطّه السّيل من عَلِ
وقد جَرت الألسن بهذا البيت لإيقاعه المخصوص ولجمعة بين صُور متناقضة جمعًا بديعًا دققتها صورة صخرة صمّاء حدرها السيل من الأعالي. وعندما تقرأ البيت تشعر بفرس يسرع الخطى وهذه مقطوعة من المعلقة في وصف الفرس :
وَقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا *** بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ هَيْكَلِ (1)
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً *** كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ (2)
كَـمَـيْـتٍ يَـزِلُّ الـلَّـبْـدُ عَـنْ حَـالِ مَــتْــنِـهِ *** كَــمَــا زَلَّــتِ الـصَّـفْــوَاءُ بِــالــمُـتَـنَـزَّل (3)
مِـسِـحٍّ إِذَا مَـا الـسَّـابِـحَـاتُ عَـلَى الوَنى *** أَثَــرْنَ الـغُــبَــارَ بِــالـكَــدِيْــدِ الــمَــرَكَّلِ (4)
لَــهُ أيْـطَــلا ظَــبْـيٍ، وَسَـاقَــا نَــعَــامَــه *** وإِرْخَــاءُ سَـرْحَــانٍ، وَتَـقْـرِيْــبُ تَـتْـفُلِ (5)
كَـــأَنَّ دِمَـــاءَ الــهَــادِيَـــاتِ بِـــنَــحْــرِهِ *** عُــصَــارَةُ حِــنَّــاءٍ بِــشَــيْــبٍ مُــرَجَّـلِ (6)
إنّ وصف امرئ القيس للفرس حسب عبارات (قيد الأوابد)، (دماء الهاديات) هو وصف له إبّان الصيد، وهذا الموضوع لم يكن غرضا ضروريا في الشعر قديما، فمن جملة الأغراض وصف المطيّة ناقةً كانت أم فرسًا والفرس قد يكون في الصيد أو في ساحة الوغى أو وسيلة توصل العاشق أو المادح الى محبوبته أو إلى ممدوحه.
ومن بين من وصفوا الفرس نجد علقمة الفحل وقد قال في بائيته المشهورة التي تشبّب فيها بأمّ جُندب
وقد أغتدي والطير في وكناتها *** وماءُ الندى يجري على كل مُذنَبِ
بمنجرد قيدِ الاوابد لاحه *** طِراد الهوادي كلّ شأوٍ مغرّب
والملاحظ أن نفس العبارات والصور قد وجدناها في معلقة امرئ القيس، بل ان الرّواة قد أثبتوا البيتين بنفس هذه الألفاظ في بائيّة امرئ القيس التي أنشدها في أم جُندب زوجة امرئ القيس لتفصل في أيّهما أشعر. فأنشد امرؤ القيس :
خليليّ مُرّا بي على أمّ جُندب *** نُقضّ لُبانات الفؤاد المعذّب…
وأنشد علقمة بن عبْدة :
ذهبت من الهجران في كل مذهب ***ولمْ يَكُ حقّا كلُّ هذا التجنُّب…
فحكمت لعلقمة فطلّقها امرؤ القيس وتزوجها علقمة فلُقّب بالفحل.
اشتهرت الخيول العربيّة الأصيلة على مرّ الأزمنة بالسباق وفي تراثنا العربي قصّة حرب دامية سُمّيت على فرسين هما داحس والغبراء، فقد كان داحس فرسًا لسيّد بني عبس والغبراء مُهرة لسيّد بني ذبيان فتراهنا عليهما فلما كان يوم السباق أمر سيّد بني ذبيان جماعة بأن يكمنوا لداحس ويردّوه عن الغاية خرج العبيد من مكمنهم ولطموه على رأسه فسبقت الغبراء وبعث سيّد ذبيان ابنه الى سيّد عبس يطلب حقّ السبق فأبى أن يدفع وقتل رسول ذبيان فاشتعلت الحرب بين القبيلتين. وقد كان عنترة بن شدّاد من فرسان هذه الحرب وهو من بني عبس ومن الطريف في معلقة عنترة تلك العلاقة الحميميّة بين الشاعر الفارس وفرسه الأدهم الذي شخّصَه وجعله يحاوره بقلبه وعينيه :
يدعون عنتَرَ والرّماح كأنّها *** أشطان بئر في لبَان الأدهم
مازلت أرميهم بثُغرة نحره *** ولَبَانه حتى تسربل بالدّم
فازورّ من وقع القنا بلبانه *** وشكا إليّ بعبرةٍ وتحمحُم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى *** ولكان لو علم الكلام مكلّمي
ونشهد في إحدى قصائد المتنبي محاورة في قصيدة مدح بها عضد الدوله البويهي وتغنى بجمال منتزه “شِعب بوّان” فشخّص حصانه وجعله يتكلّمُ :
يقول بشِعب بَوان حصانى *** أعن هذا يُسارُ الى الطعان ؟
أبوكم آدم سنّ المعاصي *** وعلّمكم مفارقة الجنان
والحق ان صورة الحصان هنا غريبة عمّا ألفناه عند المتنبي الذي يقول :
الخيل والليل والبيداء تعرفي *** والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وهو الذي تبرّم بالمُقام بـأرض مصر دون ركوب للطعان عندما أصابته الحُمّى بقول :
أقمت بأرض مصر فلا ورائي *** تخبُّ بي الرّكاب ولا أمامي
وملّني الفراش وكان جنبي *** يملّ لقاءه في كل عامِ
ولا شكّ أن لكل مقام مقالا فقد استعمل المتنبي الفرس في الحرب كثيرا واستغلّه كذلك، بعض القدماء مطيَّة وتوصله الى الممدوح فقال في مدحيته لكافور الأخشيدي بعد أن شكا تقلّب الأيام :
ولكن بالفسطاط بحرًا أَزَرتُه *** حياتي ونصحي والهوى والقوافيا
وجُردًا مددنا بين آذانها القنا *** فبتن خِفاقا يتّبعن العواليا
والجُرد مفردها الأجرد وهو الفرس القصير الشعر.
من خلال ما تقدّم تستنتج أهم صفات الفرس العربي الأصيل، فهو أجرد، لونه كمَيت، ضامر البطن طويل الظهر والعنق، أملس المتن، سريع ذو نسب كريم أي معلوم السلالة وليس هجينا.
وقد وردت في أشعار العرب وأخبارهم مفردات كثيرة تتصل بمعجم الفرس : فضامر البطن هو الأقبّ والمؤنث قبَّاء والجمع قُبٌّ وطويل الظهر والعنق : الأقوَد جمعه قُودٌ – وطويل القوائم : طِمِرٌّ أما صفات الكرم فمنها : العتيق والمَذْكيُّ، والنجيب، الطِّرْف وطرق العدو منها : الونى، الخببُ، الارخاء، التقريب
يقول المتنبي في استهلال مدحيّته لكافور :
إِذَا كُنْتَ تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ بذِلَّةٍ *** فَلَا تَسْتَعِدَّنَّ الْحُسَامَ الْيَمَانِيَا
وَلَا تَسْتَطِيلَنَّ الرِّمَاحَ لِغَارَةٍ *** وَلَا تَسْتَجِيدَنَّ الْعِتَاقَ الْمَذَاكِيَا
فَمَا يَنْفَعُ الْأُسْدَ الْحَيَاءُ مِنَ الطَّوَى *** وَلَا تُتَّقَى حَتَّى تَكُونَ ضَوَارِيَا
وأدعوكم أخيرًا أن تكتبوا هذه الجملة وأن تقرؤوها من اليمين ثم من اليسار وانظروا النتيجة :
“سِرْ فلا كبا بك الفرسُ”
ودمتم بخير
1- المعنى : ربَّما باكرت الصيدَ قبل نهوض الطير من أوكارها، بفرس قصير الشعر بلحق الوحوش (الاوابد) فيصير لها كالقيد
2- اعتمد في هذا البيت على صبغة المبالغة في مكرّ، مفرّ وجعَل من فرسه حسن الاقبال والإدبار وشبّهه في السرعه والصلابه بجلمود صخر ألقاه السيل من علوّ.
3 – الكميت : لونه أسوَد الى حُمره، يقول : هذا الفرس لاكتناز لحمه وملاسَةِ صلبه، يزلق السّرج الموضوع على ظهره كما تُزلُّ الصخرة الملساء قطرات المطر النازل عليها.
4 – مسحّ : مبالغه من السح أي الصبّ والدفع، السابح من الخيل : الذي يمد يديه في الجري كأنّه يسبح في الماء. الونى : الفتور الكديد : الأرض الصلبة. المركّل : ما يُركل بالأرجل. يقول : هذا الفرس يجري جريا سهلا كما يسحّ المطر، اذا افترت الخيل السريعه وأثارت الغبار بأرجلها جرّاء التعب.
5 – أيطل الظبي خاصرته وكشحه، إرخاء سرحان : شدة عَدْو ذئب. التقريب : رفع الرجلين معًا ووضعهما موضع اليدين. التتفُل : ولد الثعلب
6 – الهاديات : متقدّمات الطّرائد. المرُجّل من الشّعر : المسرّح الممشّط