ما مدى إسهام مدينة صفاقس في تاريخ الفنّ التشكيلي التّونسي؟
( جولة خاطفة في ” نهج الرّسّامين” )
لا ريب، إن البحث في “دور صفاقس في الدّفع بالحركة التشكيليّة التّونسيّة” مشوب بالغموض الإشكالي ويحتاج إلى تدقيق في المنهج والمفهوم. إذ ما الذي يمكن أن يعنيه “دور صفاقس”؟ وحتى نستوفي شروط هذا الدّور وتعيّناته، يطالبنا السؤال بتحديد ما هي صفاقس التي نعني.
هل هي مجرّد منطوق جغرافيّ يحدّد ماهيّة مكانيّة ما، ضمن خارطة النشاط التشكيليّ التونسيّ؟ ومن ثمّة، يفترض السؤال التــّعاطي معها من جهة قابليّة المقاربة التاريخيّة التي يحتملها الموضوع في هذه الحالة، لأن تتوزع بين كيانات جهويّة بعينها. وهي فرضيّة مردودة، منذ البداية، على وجهين، على الأقل.
الوجه الأوّل هو تسليمنا بعرف الشموليّة لكل مشروع “حركة” فنيّة، حتى وان كانت منشودة، على النحو الذي يفترضه موضوعنا ( فنحن نتحدّث عن نشاط تشكيليّ تونسي وليس عن حركة، بعد، لها خطاب ثقافيّ متماسك…)، ويستتبع ذلك تسليمنا بأن المحرّك الأساسيّ لهكذا حركة منشودة ليست الجهات وأجهزتها الإدارية، بل هم الأشخاص المعنيّون، عندما يمأسسون تطلّعاتهم الذاتيّة ونزعاتهم الفنيّة داخل نزعة منتجة للقيمة الثقافيّة هي ما نسمّيه بالحركة. أمّا الوجه الثاني، فهو تسليمنا بالطابع الكوني و الميتا- جغرافي لثقافة الفن الحديث والفن المعاصر والخاصّيّة الإنسانية التي طبعت ثقافة الشكل الفني والصّورة الفنية عموما.
وأمّا إذا احتكمنا إلى الخارطة التونسيّة نفسها، فلا نلاحظ تعدّدا لجهات تتوزع عليها أنشطة الفنون على نحو يجمع بين التنوّع و التكافؤ، حتّى نجوّز لأنفسنا الحديث عن جهة” بالتـّوازي” أو “بالمقابل” مع غيرها. فبعد، مازال قطاع الفنون التشكيليّة في طور تأسيسيّ داخل البلاد من حيث بعث التظاهرات السّنوية وإنشاء قاعات العروض داخل الجهات وما يوازيها من مراكز ثقافيّة أو مركـّــبات…
ولكن عين المسألة، هو أن حضور ثقافة التشكيل لم يعد يقاس بعدد المعارض والتظاهرات ومعاهد الفنون، في جهة ما، بل أصبح يقاس بمدى تغلغل هذه الثقافة داخل الذائقة الفنيّة وبنية الوعي الجمالي لدى الأفراد، لتصبح قيما ورؤى وحساسيّات رفيعة المستوى تطبع السّلوكات اليوميّة وتلوّنها. كما أن “الإعجاب بالعمل الفنّي يحتكم إلى المكانة التي نوليها له في سلــّم القيم الثقافية والاجتماعيّة التي نتطلــّع اليها بلباقة” كما قال عالم الإجتماع بيار بورديو. ومثل هذه الرّهانات لاتتحقق على المستوى العملي إلا من داخل منظومة ترويجيّة (سوق الفن) وإعلامية ينتشر من خلالها العمل الإبداعي بين الناس. وبالتوازي، يفترض الأمر وجود حركة نقديّة وتنظيريّة ملازمة لنشوء الحركة الإبداعية، على نحو جدليّ، حتى تكون مجالا لإعادة إنتاج الأثر الفني داخل التـّمثــّل الذهني وتحوّله الى قيمة ثقافيّة ما بين مواقف وكتابات وقراءات وحوارات…وهي قيم لم تتحقق بعد على مستوى الفنون التشكيلية داخل البلاد، وان كان هناك ما يبشـّر بوجودها على مستوى فنون أخرى، وخاصّة الدّراميّة منها، على الأقل بحكم ما تلقاه من عناية إعلامية…
والى هذا الحدّ، يتمنــّع الموضوع، من جديد، عن أن يستقيم داخل سياق بنية الفكر التاريخي. وهو ما يحثنا على أن نتدبّر فهمنا للموضوع على نحو آخر. فهل نقصد بـ”دور صفاقس” دور المدينة نفسها في “الدّفع بالحركة التشكيليّة بتونس”؟
إن فهمنا للمدينة ،في هذا السياق، يقتضي تنزيهها عن كونها مجموعة ديار وأسواق وأقواس وأنهج قدّت من جدران وحجارة مصقولة…فليست المدينة تشكيلة معماريّة، فحسب، وليست مجرّد حاو تتداول فيه المحتويات على نحو اعتباطيّ. بل هي بنية سوسيو- ثقافيّة متجذرة في التراث الاجتماعي ولها تمظهرات على مستوى العمران ومنظومة القيم المدينيّة والحضاريّة نفسها. ولئن ظهرت مدينة صفاقس بوصفها مجالا خصبا للصّناعات الحرفيّة التي توزعت بين أسواق وورشات مثل قطاع الملبس التقليدي والتطريز والنحاس وخشب الزيتون والمصوغ والدّباغة والصّباغة والزخرف والرّسم على البلّور الذي نشط منذ أواخر القرن التاسع عشر وصولا الى منتصف القرن العشرين، الا أنها بحكم طبيعتها التراثيّة، لم تكن مجالا لخدمة ثقافة الفن الحديث واللوحة المسنديّة، بوجه خاص. فمنزلة الفنون التشكيليّة في المدينة، يمكن أن تتمظهر من داخل التأصيل التـّـقني والتـّـنزيل التاريخي العام وليس من داخل التأصيل المفاهيميّ، لما تتوفــّر عليه ثقافة التّشكيل الفنّي من قيم فردانيّة ومواقف وجوديّة وصلت الى حدود العدميّة، بما لا يمكن أن يتلاءم مع ثقافة العمران المديني العربي الإسلامي وما يقوم عليه من متون روحانيّة لها مرجعيّاتها التوحيديّة، ومن ديناميّة عمليّة تربط بنية الفكر بمستويات العمل في الصّنائع والتقنيات، داخل أتون الحياة اليوميّة. وذلك أقل ما يقال عن أيّة مدينة “عتيقة” مثل القيروان أو مرّاكش أو فاس أو حلب أو مدينة تونس في الجانب القديم منها…
وبعد، فان ثقافة اللوحة المسنديّة على الأقل (وهي الشكل الأكثر تداولا في الفن الحديث) لم تستمرّ كنمط فني إبداعي أو كإنتاج ثقافيّ معروض للعموم، داخل مدينة صفاقس العتيقة. فقد أغلق رواق “متحف دار الجلولي ” أبوابه بعيد افتتاحه سنة 1987، أي بعد أن قدّم نزرا قليلا من المعارض الفردية لكلّ من الفنانين عبد اللطيف الحشيشة و علي الناصف الطرابلسي…ليتحوّل سنة 2010 الى فضاء تابع للمكتبة والتوثيق. كما تراجع نشاط “قاعة محمّد الفندري للمعارض” أو ما عرف برواق “القصبة” بعد أن افتتح سنة 1990 بمناسبة الدّورة الرّابعة للمعرض السنوي للفن التشكيلي بصفاقس، بل وقد انحسر نشاطه الفني بالكامل، السنوات الأخيرة من العشريّة الأولى. وكان فتحه نتيجة نداءات العديد من الفنانين من أجل تأسيس رواق فنيّ بالمدينة، على اثر انبعاث المعرض السّنوي سنة 1986 . بل إن دورة سنة 1989 كانت قد تأجّلت في انتظار إتمام أشغال هذا الرّواق.
هذا فضلا عن أن المدينة العتيقة بصفاقس تشكو من زحمة النشاط التـّجاري، وخاصّة ما يتعلــّق بالسّلع الاستهلاكيّة المستوردة، وذلك على حساب النشاط الحرفيّ والصّناعي نفسه…كما أن حاجتها المتزايدة إلى الصّيانة وقلـّة حظوظها من إعادة التهيئة، من جهة، ومعاناتها من جرّاء التـّلوّث البصري والسّمعي، قد أعفاها من الدّور الثقافي والشواغل الفنية (رغم تعاطف الفنانين والمثقفين معها في شكل مرثـيّات ونداءات محمومة )…وللمسألة استتباعات أخرى لا يتسع المقام لها…وحريّ بنا أن نعفي المدينة ممّا قد يفترضه موضوعنا الأصلي. فهل نقصد بـ ” دور صفاقس” دور الولاية ذاتها من خلال ما تتوفــّر عليه من هياكل إدارية ولجان ثقافيّة كوّنت لخدمة الضمير الإبداعي بالجهة وتنميته؟
الحقيقة أننا من خلال هذا الافتراض سنحدّد أطر الفضاء التشكيلي من خلال الأطر الإدارية نفسها والحدود ما بين الولايات…وهو أمر مردود من حيث المبدإ لما يحتمله من خلط في التـّـناول المنهجي. فما تقوم به مندوبيّة الثقافة والمحافظة على التراث إنما يرجع بالنظر إلى وزارة الثقافة والمحافظة على التراث نفسها ويستقي مخطّطاته منها مثلما يستمدّ اعتماداته. إذ هي هيكل يعنى بأحد قطاعات الدّولة الوطنيّة برمّتها. فليس للوزارة تناول تفاضلي بين الجهات، على الأقلّ من حيث المبدإ وما يتعلّق بمقولة ديمقراطيّة الثقافة. أمّا اللجان الثقافيّة، فهي الأخرى لا يصادق على تركيبتها ولا يمكن ترسيمها إلا من طرف الوزارة كسلطة للإشراف. وعلى هذا النحو، فنحن من خلال هذا الافتراض لا نتحدّث عن ” دور صفاقس في الدّفع بالحركة التشكيليّة بتونس”، بل عن دور وزارة الثقافة والمحافظة على التراث بالجهات عامّة، داخل البلاد، من خلال أجهزتها الجهويّة تلك، أو حتى المحلـّـيـّة منها. وعليه، فنحن، في هذه الصّيغة، لا نتحدّث عن ” دور صفاقس” في تنمية الشأن العام (من خلال قطاع فنيّ مخصوص)، بل، بالأحرى، عن أثر الشأن العام بها، أي عن دور وزارة الثقافة…بصفاقس. وعندها، تزيغ المسألة عن مبحثها الأصلي، فتتحوّل الى سجلّ سياسيّ تبريريّ قد يتبرّأ منه الموضوع ولا يتحمّله، بأيّ حال من الأحوال. فهل نتدبّر أمر” دور صفاقس في الدّفع بالحركة التشكيليّة بتونس” بتوجيه النظر إلى دور المجتمع المدني والنسيج الجمعيّاتي في هذا القطاع ؟
إن بوادر العمل الثقافي الجمعيّاتي، تلك التي يقدّمها المجتمع المدني في قطاع الفنون التشكيلية، ما تزال قليلة بالمقارنة مع عدد المشتغلين بهذا القطاع، بل إن هذا القليل نفسه حديث العهد وينشط في نطاق الهواية وفي حدود المناسبات السّنويّة ولا يستوفي شروط ديناميّة الإيقاع الإنتاجي النابض… ذلك لأن هذه الهياكل الجمعيّاتيّة الصّغرى تفتقر إلى استراتيجيّة عمل طويلة المدى، فهي إن تحرّكت فلغايات تنشيطيّة لا تستند إلى فكر استشرافيّ يخدم تطلّعات المرحلة ويبشر برؤى جديدة حول علاقة الفن بالبيئة ومنظومة القيم الإنسانية التي يتمحور حولها كلّ فكر تاريخيّ وحداثيّ…
هل يفترض الموضوع حديثا عن حساسيّة ذهنيّة من طبيعة سوسيو- ثقافيّة ميّزت نشأة الفنانين من أصيلي جهة صفاقس، سنوات الستينات والسّبعينات من القرن الماضي؟ لكن أغلب هؤلاء غير موجودين بالجهة، بعد أن تحوّلوا الى العاصمة أو الى الخارج بحثا عن الأضواء والإشعاع ومنافذ الفعل… وعندها سنتحدّث عمّن هو خارج صفاقس في الدّفع بالحركة التشكيليّة بتونس وخارجها. ويترتـّب عن ذلك إخراج صفاقس من اللـّعبة التي يفترضها الموضوع، بعد خروج من كان بداخلها من الفنانين. وفي هذا الأفق، لا تستقيم للموضوع دلالة منطقيّة ذات بال. فنحن نروم الحديث عن صفاقس من خلال من كان بعدُ قد هجرها.
لقد أنجبت صفاقس عديد الفنانين الأساتذة الذين كان لهم الفضل في النـّهوض بهذا القطاع داخل السّاحة الجامعيّة والسّاحة الثقافيّة. ولكنّ عددا كبيرا منهم غادرها دون رجعة منذ نهاية المرحلة الثانويّة. وكان يمكن العودة إليها لا محالة، بعد التـّخرّج أو بعد إنشاء العهد العالي للفنون الجميلة بالجهة، لكنّ استئثار العاصمة بمركز الثقل الجامعي والثقافي كان حائلا دون ذلك، لدى غالبيّتهم.
هل نتحدّث عن إسهام صفاقس من خلال أجيال الرّسّامين المعمّرين الذين تداولوا على الجهة، سواء ما يتعلّق بالرّسّامين الفرنسيّين والطليان الذين مرّوا بها أو بأساتذة المعاهد الثانويّة؟ فمجموعة بلديّة صفاقس من الأعمال الفنيّة تتضمّن عددا من اللـّوحات الانطباعية، بعضها بات عصيّا عن تعيين قيمتها وتحديد هويّتها، نظرا لغياب التـّوثيق… كما لا نغفل ههنا، عن مبادرة الرّسّام الرّائد علي بن سالم الذي فتح أوّل ورشة حرّة لفنّ الرّسم بالجهة، في مستهلّ سنوات الأربعينات، قبل إقصائه من قبل السّلطات الفرنسيّة وعودته إلى أوروبّا تاركا جيلا شغوفا بالرّسم الواقعي والانطباعيّ ومنه نذكر الناصر البرناوي في الرّسم الزيتي، والبوراوي الحاج ساسي، في الرّسم على البلـّور ذي المواضيع الطبيعيّة والمشهديّة. ولكنّ مثل هذه المرحلة لم تبلور حساسيّة جماليّة مخصوصة، بل بقيت امتدادا لنوادي الهواية…
هل نتحدّث عن دور صفاقس من خلال أجيال الرّسّامين التي تعاقبت على الجهة منذ سنوات السّتينات؟
سنتحدّث ههنا، بوجه خاصّ، عن ثلاثة أساتذة لمعوا في بحر الستينات وهم خليل علولو، بالمعهد الثانوي الهادي شاكر والحبيب بن مسعود والنوري دمّق، بالمعهد الثانوي 15 نوفمبر (إذا استثنينا الفنان الرّاحل إبراهيم الضـّحّاك الذي وقع طرده من هذا المعهد بقرار من مديره، وقتـئذ). هؤلاء الرّسّامين ساهموا في نشر ثقافة الفن الحديث سواء من خلال برامج تدريس مادّة الرّسم أو من خلال إشرافهم على بعض نوادي الشباب التلمذي بهذه المعاهد أو بدار الشـّباب. لكنّ جهود هذا الثالوث قد أثمرت على المستوى البيداغوجي ولم تتمكـّن من تأسيس حركة عل المستوى الثقافي ذات خطاب تحديثيّ وله مواقفه المخصوصة، على شاكلة ما كان يجري وقتذاك في العاصمة، بورشة نهج القاهرة وقاعة يحيى والمركز الثقافي الإيطالي، على مستوى مجموعة السّــتــّة أو معرض جماعة الخمسة (نجيب بالخوجة ورفاقه). ولعلّ غياب البنية الأساسيّة (القاعات المجهـّزة للعروض والمراكز الثقافيّة…)، من جهة، وغياب الجمهور المعني بالقطاع، من جهة أخرى، كانا عائقين أمام ظهور حركة فنيّة. بل ولعلّ من أوكد ما واجهه هذا الثالوث هو ضرورة تكوين جمهور متذوّق للثقافة التشكيليّة الحديثة، بوصفه فاعلا ديناميّا ومتقبّلا مشروطا لما يمكن أن تنتجه هذه الحركة المحتملة من خطابات وإنتاجات. و لذلك، فقد انصبّ اهتمامهم على الشـّغل البيداغوجيّ، في مثل هذه المرحلة التـّأسيسيّة. وفضلا عن هذين العاملين، فإنّ غياب تقليد فنيّ سائد بالجهة أو تيّار مخصوص من داخل ثقافة اللوحة المسنديّة، كان حائلا دون ظهور حركة فنيّة جديدة تلعب دور المعادل الجدلي وتقوم على معارضة ما هو سائد أو موجود لتقديم ما هو منشود. بل وكان يمكن الاستفادة من النموذج الجدليّ الذي كان يعتمل وينشط، وقتذاك بالعاصمة، فيما يتعلـّق بمدرسة تونس، من جهة، وجماعة الشبّان، من جهة أخرى…
أمّا سنوات السّبعينات فقد شهدت ظاهرة المعارض الفنيّة بمدينة صفاقس من خلال جيل ثالث من الرّسّامين راهن على الخروج من قاعات التـّدريس إلى قاعات العروض. ونظرا لغياب الفضاءات المختصّة، فقد لجأ الرّسّامون الى بهو المسرح البلدي. لكنّ هذه الظاهرة لم تتوصّل الى تنزيل ثقافة اللوحة المنزلة الملائمة، حيث ظلـّت “العروض” التشكيليّة تنشط على هامش العروض المسرحيّة و السّينمائيّة والموسيقيّة. وإلى هذا الحدّ، بقي الرّسّام يطالب بجمهور خاصّ يدعوه لتذوّق أعماله، عوضا عن أن يظلّ التـّعريف بإنتاجه رهين فرص مرور جمهور المسرح أمام لوحاته وغالبا ما يكون المرور عرضيّا.
ومن بين أفراد هذا الجيل نذكر الرّسّامين علي الفندري، محسن خلف، عبد اللطيف الحشيشة، محمّد واردة، محمّد العزابو ومحمّد راجح الذي كان يأتي من مدنين للعرض بصفاقس قبل سفره إلى فرنسا وعودته، أواخر التسعينات، للعرض بقرطاج، هذه المرّة.
وأن يعيش الفن التشكيليّ تحت ظلّ فنون أخرى (الفنون الدراميّة)، لهو وجه من اغتراب الفنان التششكيليّ ومعاناته من أجل تأصيل الكيان وتأكيد فنـّه. وهو، من جهة أخرى، تعطيل لحركة تكوين الجمهور المتذوّق. وكم مرّة، سنوات 1979-1982 تاقت نفسي إلى مشاهدة ما يُعرض ببهو المسرح البلدي من لوحات، تلوح من خلال الجدار البلـّوري، فأتـّخذ لي مكانا في الصّفّ بين الناس، وعندما يأتي دوري بباب البهو، أنتظر ما يقوله لي السّيّد المراقب، ككلّ مرّة ” عليك باقتطاع تذكرة تمكـّنك من العبور، على شاكلة هؤلاء القادمين إلى مشاهدة الشريط، أو الانتظار إلى حين خروجهم”، إذ ما الذي يضمن له ألاّ أتسلـّل إلى قاعة عرض الأفلام دون تذكرة، بتعلـّة مشاهدة معرض اللوحات الزيتيّة، وهي حجّة واهية في نظره ولا تستأهل ما كان يبدو لديّ من حماس للدّخول.
ولقد تواصل، سنوات الثمانينات، حضور هذا الجيل نفسه بين فضاءات أخرى، غير مخصّصة للمعارض التشكيليّة أساسا. ومن ذلك، دار الثقافة ودار الشباب والمعاهد الثانوية. كما ظهرت بوادر من جيل الشبان (الجيل الرّابع) في نفس هذه الفضاءات. ومن جهتي، فقد قدّمتُ منذ سنة 1982 معارض للوحاتي الزيتيّة والمائيّة ما بين قاعة مكتبة اللـّجنة الثقافيّة المحليّة بمركز القصّاص وقاعة كرة تنس الطاولة التابعة لمكتب الشباب. وكنت سنوات 1983- 1985 قد عرضت بقاعة استقبال دار الثقافة، على ألواح متحرّكة وقاعة اجتماعات إدارة الكشافة التونسيّة بالجهة وقاعة عقود بلديّة العين… فضلا عن المعارض التي قدّمتها بما كان يسمّى بدور الشعب وكذلك دور الثقافة في ضواحي صفاقس (المحرس، ساقية الدّاير… ) حيث يتحوّل ركح العروض المسرحيّة إلى فضاء للعروض التشكيليّة، في انتظار مسرحيّة أو حفلة مبرمجة. كما عرضت ببهو المبنى الأصلي للمعهد الثانوي 15 نوفمبر، وهو بهو صغير يتوسّط قاعة الأساتذة ومدرج الطابق الأوّل ومدخل المبنى ودورة المياه. وهو المكان الذي تنتظم فيه المعارض الفنيّة بين السنة والأخرى، وعلى جدرانه كانت تعلّق بعض لوحات الرسّام الحبيب بن مسعود، أحد أساتذة المعهد. وأذكر أنني شاهدت في هذا المكان أوّل معرض فردي لأحد أبناء المعهد وهو الزميل وحيد العويّ، في الرّسم الزيتي للمشاهد الطبيعيّة، مقتديا بالكلاسيكيّين، وكان ذلك سنة 1983.
هكذا تواصل الوضع إلى أن وقع تأسيس صالون صفاقس السّنوي للفنون، على يد الفنانين الأساتذة خليل علولو والهاشمي الجمل ومحمّد اليانقي ورؤوف الكرّاي ، في مارس 1986، ولكن بقاعة الأفراح البلديّة، ثمّ بالبهو العلوي للمسرح البلدي سنة 1987. وكان من أوكد شواغل التشكيليّين المشاركين في الدوّرة الأولى (وكنـّا ثلاثة وأربعين من أجيال مختلفة) المطالبة بفتح قاعة للمعارض الفنيّة بالمدينة. وكنـّا نرى في شخص الأستاذ أحمد الزّغل خير داعم لمطلبنا، وهو رئيس بلديّة صفاقس وقتذاك (بعد أن كان مديرا لمعهد 15 نوفمبر 1955) وأحد محبّي الفنون، بل وأحد المشاركين في التظاهرة بلوحتين إثنتين.
وفعلا، ففي حفل الإستقبال الذي انتظم بعد شهر (أفريل 1986) بقاعة عقود بلديّة صفاقس بالطابق العلوي، احتفاء بالفنانين المشاركين، بمناسبة اختتام المعرض (وبعد زيارة لجنة الشراءات التابعة لوزارة الثقافة ولأوّل مرّة إلى مدينة صفاقس، وكان على رأسها الفنان الهادي التركي)، بارك الأستاذ أحمد الزّغل هذا المطلب وبشـّر الحاضرين من الفنانين بأنـّه سيكرّم مكانتهم الثقافيّة ومنزلتهم الاجتماعيّة من خلال قراره بتسمية نهج داخل المدينة العتيقة بـ” نهج الرّسّامين”، فعمّ القاعة تصفيق طويل… وأذكر أنني حتـّى مطلع التسعينات، كنت عند عودتي إلى صفاقس من العاصمة، أجوب ربوع المدينة العتيقة، أزقـّتها وأنهجها وسباطها وحتى زناقها الضـّيّقة حيث أصبحت تداهمني رائحة الرّطوبة، أكثر من أيّ وقت مضى، كلـّما التصقت بجدرانها المتآكلة، وحيث العديد من المنازل التي تحوّلت إلى مخازن وورشات لصنـّاع الأحذية… وقد تؤدّي بي المنافذ إلى المنتصبين بـ ” سوق الكامور” وحتى ” نهج العدول “، وصولا إلى ” نهج الصّباغين” و” نهج العطارين”… كنت وقتها أبحث عن “نهج الرّسّامين”، ولكن دون جدوى، فلا أحد من أهالي المدينة كان يعرف له أثرا…
ولقد انقطعت عن البحث في هذا الشأن منذ أن قال لي أحدهم زاعقا ، ذات مرّة، ” أنتم لم تجدوا لكم مكانا لائقا مع غيركم من الفنانين في بناية المسرح البلدي، فكيف لكم أن تبحثوا عنه بين ” نهج القصر” و” رحبة الرّماد” ؟ “.
وها نحن نصرف النّظر عن هذا النّهج في متاهة السّنين والعقود والوعود… ولكن هل نعدل عن البحث عن قاعة عرض ملائمة؟ وبعدُ، فقد تحوّل الرّواق البلدي إلى كومة من الرّدم وعدنا من جديد للعرض بقاعة الأفراح، إذ انتظم هناك في بداية فيفري 2020 صالون صفاقس السّنوي للفنون، من جديد وقد كُتبت له العودة إلى نفس القاعة بعد البحث عن فجوة في قائمة أفراح المدينة لينتظم خلالها الصّالون وكانت مجرّد أيّام معدودات… إنّ الثقافة ليست مجرّد متمّمات وزينة (أكسسوار) بل يُفترض أن تكون واجهة لعمران المدينة. هذا ما يجب على أصحاب القرار والمال فهمه.
خليل قويـعة