انزياحات الصّوت والصّورة
يظل العمل الفني مصدرا للتأويل الجمالي والفكري في ذات الحين فهو يخاطب الحواس مخاطبته للخيال وللتفكير ولكن اذا ما اقترن بالثبات والسكون على امتداد عشرات ومئات من السنين فان تقنية الفيديو قد خلقت نمطا جديدا من التلقي عماده الصورة وقد دبت فيها الحركة سواء في متنها التشكيلي او في مفرداتها الفنية وهذا التلقي الجديد ينهض على مبدا الانزياح التركيبي الذي يخلق من الصورة الام او اللوحة الاصل يخلق صورا جديدة قوامها الحركة والخطاب والكلام والتزاوج بين الفنون فالانزياح يغدو معطى تجريبيا وفي الان ذاته قانون من قوانين اعادة تشكيل الثابت واخراجه اخراجا غير منتظر اومتوقع لما في تقنية الفيديو والتطبيقات الرقمية والخوارزميات من امكانات هائلة في التعاطي مع الاعمال الفنية التي كنا لوقت قريب نعتقد انها ثابتة ثبوت الاهرامات فاذا بالفيديو يمدنا بأساليب مستحدثة نتجاوز بها النمط السائد وننفذ بها الى المابعد والماوراء العمل الاصلي في عمليات تناصية لا يمكن ان تتوقف في المستقبل .
كلمات مفاتيح: الانزياح/الفيديو/الخوارزميات/الأيقوني/ الذاكرة
بعد أن اخترق الفنّ المعاصر إطار اللّوحة لينشئ علاقة بين مكوّنات العمل الفنّي من جهة والذّاكرة التي تـنبع منه من جهة أخرى، اكتشف الفنّان أنّ هذه الأخيرة يمكن أن تتحوّل إلى منجز رقمي بتقنيات متطوّرة بعيدة عن المألوف والمتداول. ومع بداية السّتينات من القرن العشرين تعمّق انفتاح الفعل التّشكيلي على الذّاكرة وارتبط بها واشتغل عليها، وهو ما قطع كلّيا مع النّموذج الواقعي والنّقل المباشر ليتحوّل إلى استخراج ما يكمن في ذاكرته من أحداث وصور وأصوات سعيا إلى استحضار ما غاب عنه وإعادة صياغته تشكيليا. وقد مهّدت هذه المقاربات الفنّية إلى ابتكار طرق جديدة تواكب العصر وتحاكي الواقع في ظلّ عدم الاكتفاء بما هو متداول. إذ أصبح الفنّان المعاصر معنيّ برقيّ الجانب الحسّي كالذّكريات، من أحداث شخصيّة- لا تمتّ بصلة إلا لذلك الشّخص- إلى أعمال فنيّة ذات قيمة تشكيلية.
يتجاوز هذا التّوجه الحدود الأكاديميّة والأبعاد التّشكيلية الصّرفة للفن، بعد أن استوعب الفنان المعاصر الدّروس المستقاة من الحلقات الفاصلة في تاريخ الفنّ الحديث والمعاصر وألّف بينها لينفتح على السوسيولوجي والحميمي واستنباط التّواصلي وتشريك المشاهد، ليس فقط من خلال آليّات التّلقي الفاعل ودعوته للمساهمة في انجاز العمل التّشكيلي، وإنّما عبر الدّخول في أحاسيسه الباطنية وتنشيط ذاكرته بصريّا وسمعيّا.وقد ساهم ذلك في انشاء ذاكرة جمالية استودع فيها الفنانون ابداعاتهم من اجل ان تكون موضوعا للإلهام وللتفكير فيها اولا وفي المواد الفنية التي تشكل تكوينها الهندسي والجمالي وافاقها التأويلية.
إن قراءة هذه الذاكرة الفنية الغنية بالمنجز وبالأيقونات وبالفكر الاستيتيقي قد أوحى للفنان التشكيلي المعاصر بتوظيف مفهوم جديد نسبيا في الجماليات وهو مفهوم الانزياح الذي ولد بين أحضان الدراسات الادبية والشعرية إلاّ أنّ تأثيره الاجرائي امتد إلى الجماليات بصورة عامة .
الانزياح: التحديد الاصطلاحي والمدى المفهومي.
لا شكّ أنّ مفهوم الانزياح ليس فقط مفهوما شائعا في الدراسات الأسلوبية المعاصرة وإنما أيضا يحتل مكانة مركزية في الأبحاث الأدبية والجمالية المعاصرة سواء كانت غربية أو عربيّة حتى أنّ حمادي صمّود اعتبر أنّ فكرة الانزياح / الخروج هي الرابط بين التفكير البلاغي عند العرب و الاهتمامات الأسلوبية المعاصرة. ويعود الاهتمام بمفهوم الانزياح بالأساس إلى البحث عن خصائصَ مميزة للغة الأدبية عمومًا، والشعرية خصوصًا. وهو مفهوم تجاذبته وتعلقت بدائرته مصطلحات كثيرة فتعددت مسمياته وتباينت. و يؤكّد عبد السلام المسدي أنّ التصوّرات المتعلّقة بهذا المفهوم نسبية فكان أن تذبذب الفكر اللساني في تحديده وبلورة مصطلحه فالكل يقاربه من منظوره الخاص باعتباره ” متصور نسبي تذبذب الفكر اللساني في تحديده وبلورة مصطلحه فكل يسميه من ركن منظور خاص” . ويحصي يوسف وغليسي ما يقارب عن ستّين مصطلحا عربيا لمواجهة هذا المصطلح الغربي ومنها: (الانزياح، الإزاحة، الانحراف، التحريف، الفارق، الفرق، المفارقة، الاختلاف، الاختراق، الخرق، الشذوذ، الفضيحة، الخروج، التضاد، الاختلال، الشناعة، الانتهاك، العصيان، الجنون، التنافر، الجسارة اللّغوية، الحماقة، التناقض، الغرابة، الاغراب، التكسير، التهديم، الانحاء، الانزلاق، اللاعقلانية اللغوية.. ). لقد تعلّقت العديد من المسمّيات بمفهوم الانزياح تجاذبته العديد من المصطلحات وهذه المصطلحات على كثرتها تعبّر أحيانا على مفاهيم متقاربة و أحيانا أخرى متداخلة. و ربما تعود هذه التخمة المفهومية إلى أنّ مصطلح الانزياح لم يبلغ بعد مرحلة النضج التي تكسب هذا المصطلح صلاحيته التامّة صلب الدراسات النقدية العربية. ورغم عدم النضج فإنّ الانزياح يجد اتفاقا من جهة الحقل الدلالي الذي يشمله إذ أنّه يدلّ على معنى المعارضة لنظام ما ، و الخروج عن نمط معياري للغة و الذي يسمى استعمالا عاديا أو دارجا أو شائعا أو مألوفا. و يؤكّد جون كوهين على أنّ الانزياح هو: ” ما ليس شائعا ولا عاديا ولا مصوغا في قوالب مستهلكة، وهو مجاوزة بالقياس الى المستوى العادي. اذن فهو خطأ، ولكنه … خطأ مراد ” . ولأنّ مفهوم الانزياح مفهوم عائم فمن الواجب علينا حسب كوهين أن نميّز بوضوح بين انزياح جمالي و آخر ليس جماليا ويشدّد على “أن الشرط الأساسي والضروري لحدوثِ الشِّعرية هو حصول الانزياح، باعتباره خرقًا للنظام اللُّغويِّ المعتاد، وممارسة استيطيقية ” . و بالتالي يكون الانزياح ” الاستعمال المبدع للغة مفردات وتراكيب و صور استعمالا يخرج بها عمّا هو معتاد و مألوف بحيث يؤدّي ما ينبغي له أن يتّصف به من تفرّد و ابداع و قوّة جذب وأسر” . أما قاموس جون ديبوا فيشير إلى أنّ الانزياح ” حدث أسلوبي ذو قيمة جمالية يصدر عن قرار للذات المتكلّمة بفعل كلامي يبدو خارقا transgressant لإحدى قواعد الاستعمال التي تسمى معيارا Norme يتحدّد بالاستعمال العام للغة، المشترك بين مجموع المتخاطبين بها ” .
ورغم الميوعة المفهومية التي تميّز مفهوم الانزياح فإنّ الإجماع يكاد ينعقد على أنّه خروج عن المألوف أو ما يقتضيه الظاهر، أو هو “الخروج عن المعيار لغرض يقصد إليه المتكلّم” ، وقد يكون دون قصد منه غير أنّه في كلتا الحالتين يخدم النّص بشكل أو بآخر وبدرجات متفاوتة. ثمّ إنّ الانزياح يسمح لهذا المبدع بمراوغة اللغة والانزياح عن قوانينها المعيارية التي تحاول ضبط الخروج عن المألوف والمعتاد من اللغة نفسها.
يشكّل، إذن، مصطلح الانزياح ( écart, déviation ) قاعدة أسلوبية متينة، و مرتكزا محوريا لكمّ وافر من الأعمال ممّا حدا بعلماء الأسلوب إلى الاهتمام به من أمثال ليو سبتزر الذي يعتبر الأسلوب “انحرافا فرديا بالقياس إلى قاعدة” ، فلا يمكن الخروج أو الانحراف عن الكلام العادي إلاّ بوجود الأصل الذي يعدل عنه أو معيارا يُنزاح عنه، وهو المعنى الذي أشار إليه أيضا يوسف أبو العدّوس، حيث اعتبر الأسلوب انزياحا عن قاعدة الاستعمال اللغوي ، وهو بهذا يجعل الأسلوب ظاهرة لا تخرج عن مفهوم الانزياح ويوضّح منذر عياش مفهومه للانزياح من خلال العلاقة بين اللغة المعيار والأسلوب المنزاح، وبناء على هذا يظهر الانزياح على نوعين : “إنّه إمّا خروج عن الاستعمال المألوف، وإمّا خروج عن النّظام نفسه” ، فيكون الانزياح في كلتا الحالتين كسر لمعيار معيّن ينتج عنه قيمة جمالية. و بهذا يحقق الانزياح الوظيفة الأساسية للفن كما يحدّدها ميشال فوكو: ” من مبادئ الفن أن لا تحتويه أية سلطة وأن لا يتلاءم مع أي نفوذ، فمن خصائصه أن يظهر بداهة الحدث المطلق للتجارب العادية. إنّه الملاذ الأخير، حيث يمكن تفادي الادعاء المعرفي” .
ويوضّح محمد الهادي بوطارن بأنّ مصطلح الانزياح يستعمل في اللّسانيات للدلالة على معنيين:
المعنى الأول : ” هو الدّلالة على الفجوة بين استعمالين لغويين قديم وحديث أو بين عامي وفصيح، ففي الفرنسية مثلا هناك فرق بين كلمة « Rei » في الفرنسية القديمة والتي تعني الملك بالعربية وبين” Le roi ” في الفرنسية الحديثة.
المعنى الثاني : أمّا المعنى الثاني لهذا الاصطلاح فإنّه يرتبط بعلم الأسلوب ويعني الخروج عن أصول اللغة وإعطاء الكلمات أبعادا دلالية لا متوقّعة ” .
من الواضح أنّ الفن و فن الرسم تخصيصا عرف العديد من التحوّلات خاصة بعد الحرب العالمية حتى أنّه أصبح ظاهرة شديدة التعقيد تتمظهر في تجليات مختلفة تمام الاختلاف عن التصنيفات الدارجة نتيجة تغيّر الأفكار و تداخل الأساليب و انبعاث أساليب جديدة بحيث كأننا اليوم نشهد نأي فن الرسم عن تاريخه و موضوعه: ” وخير ما يمثل ذلك هو القرن العشرين القادم بمحاولة جديدة قطعا وتعديلا كليا في القيم المكتسبة، وجهدا لتوطيد الخلق التشكيلي على مبادئ ثورية لم تزل مع السنين تظهر جرأة متزايدة في رفضه لا للأفكار القديمة فحسب، بل ايضا للأشكال القديمة” . و نظرا لهذه المتغيّرات داخل الانتاج الفني المعاصر كان من الضروري اعادة تعريف الأسلوب الفني إضافة إلى انتاج الفن ذاته خصوصا مع دخول المتغير التقني الهائل الذي مد الفن بدماء وحياة لم يكن قد عرفها في تاريخه وتجاربه وصيرورته. ويبدو أنّ أدوات البحث الفني التقليدية أصبحت قاصرة اليوم على تفكيك الشفرات الجمالية للفن أو هي عاجزة بأدواتها التقليدية على الامساك بحقيقة التحوّلات التي طرأت على الفن في أيامنا و الحركية الدائبة التي يتّسم بها والتي دخلت به إلى جغرافيا لم تزل لم تكتشف بعد.
ونظرا للزخم الذي عرفته ظاهرة الانزياح في الحقل اللغوي فإنّها تسلّلت إلى حقل الفنون البصرية وغيرها من الفنون بحيث غدا الانزياح من الظواهر الشائعة في الدراسات الفنيّة المعاصرة، وقد حظي باهتمام الفنانين والباحثين في الآونة الأخيرة. خاصّة أننا اليوم لم يعد بمقدورنا أن نفهم الحداثة في الفن بصفة عامة والفنون التشكيلية بصفة خاصة إلاّ من خلال مفهوم الانزياح نظرا لتلك الانزياحات العميقة التي أحدثتها و التي تتجلى في الانقلابات الاسلوبية الحاصلة ذلك أنّ الأسلوب في الفن يفقد حيويته إذا اخضع إلى تنميط معيّن بفعل العادة أو المسايرة و التي ترفض كل اختراق ” فيأتي الانزياح لنقض تلك العادة و لنسف المسلّمات المعيارية فيسبغ لونا من الجدّة، و يشهر التمرّد على المعيارية المألوفة، و يمارس ضروبا شتى من الخروقات و هتك الضوابط المثالية” . و معنى ذلك أنّ الانزياح ظاهرة يوظّفها الفن لخدمة ركيزته الابداعية خاصّة و انّ الانزياح يتوفّر على امكانيات خصبة تمكّن من استثماره في مجالات أخرى و بالتالي قد يتخذ لنفسه لبوسات جديدة مغايرة تستشرف آفاقا جديدة.
“إن أول أنواع الثورة والتجديد، قائم حول تلك النقلة والانزياح في الأعمال الفنية الذي يأتي عصرا بعد عصر، كلما دعت الضرورة و الإبداع لبروز حركة جديدة تحاول الخروج على القواعد والقيود التي فرضها الأسلوب الفني السائد، ويعد سيزان رائد الفن الحديث حيث أخذ يبحث لنفسه عن أسلوب جديد تاركاً الاهتمام بالذبذبات الضوئية وتغييراتها، وحتى لا يقع في أسر الطبيعة لجأ إلى التكوينات الهندسية بالتحوير في رسومه، بدأ في تحويل المنظر إلى بناء متين قائم على علاقات هندسية، ” فكان يقسم مساحة الشكل الذي يصوره على اللوحة إلى مربعات ثم يملأ هذه المربعات بخطوط عريضة طويلة كثيفة اللون مما يوحي للمشاهد بالإحساس بالكتلة وهو ما يهدف عنصر التظليل إلى الإيحاء به في التصوير التقليدي فصور الوجوه والأجسام على هيئة اسطوانات ومخروطات ومكعبات ومثلثات”، و بذلك أرسى قواعد المدرسة التكعيبية “
قراءة اللوحة من خلال فاعلية الانزياح
إنّ ولوج الانزياح عالم الفن التشكيلي كان نتيجة التعطّش لهذا المفهوم بعد أن شق طريقه بثبات في مجال الدراسات الأدبية إضافة إلى أنّ هذا المفهوم يخدم بشكل عميق و مباشر مقوّمات الفن عامة و الفن المعاصر خاصّة فهو يركّز على معنى الخروج عن المألوف و هو ما يسعى إليه جاهدا الفنان المعاصر. إنّ هذه المميّزات و الحمولة الدلالية و التأويلية التي يتوفّر عليها الانزياح فتحت الطريق المنهجي والاجرائي واسعا لكي يقع استثماره في دراسة ممكنات التفاعل والتلقي للأعمال الفنية القديمة والحديثة على حد سواء. و هو ما يحفّز الفنان على الغوص في خفاياه والتجوّل بين ثناياه و توظيفه في تجربته الشخصية. و تعود كثرة الدّراسات المتلاحقة حول مفهوم الانزياح إلى ما يمتاز به هذا الأخير من اقتدار على ملامسة الذاكرة وتنشيطها عبر الصوت والصورة و بالتالي يمكن توظيفه في فيديو فنّي عبر انزياح الصوت والصّورة كمرحلة أولى، في تجربة شخصيّة بين الرّسم والموسيقى لتراهن الذاكرة على الانزياح بين الصّوت والصورة : الصورة التي تتكرّر أمامنا لنجسّمها في مواضيع مختلفة والصوت الّذي يعبر أذننا ويؤثر في ذاكرتنا وبالتّالي في تجربتنا.
الأيقوني تمثيل أم تأويل./ بين الماضي و الحاضر.
لم يكن توظيف هذا المصطلح بالأمر اليسير ولأجل ذلك راينا ان نمارسه على اللوحات وعلى الايقونات من ذلك اننا اشتغلنا على أم كلثوم التي تعد أيقونة الطرب العربي الكلاسيكي بل والعالمي وسعينا الى تحريك هذه الايقونة ضمن مدارات جديدة من التلقي خاصة وان هذه الفنانة/الأيقونة تؤشر على مكانة الفن الطربي في الثقافة العربية المعاصرة فقمنا باستحضار هذه الايقونة عبر تقنيات جديدة وهي الفيديو والانظمة الرقمية والخوارزميات حتى نستولد انجازات جديدة عبر تجسيدها المرئي و التي سمحت باستحضار الغائب على مسرح التلقي الفني الجديد.
أوّل ما يمكن الإشارة إليه أنّ الأيقوني ارتبط بالمقدّس. هذا المقدّس الذي يكون خفيّا في الديانات التجريديّة و يكون مجسّدا في ديانات أخرى لأنّ الطبيعة البشرية غالبا ما ترغب في ادراك الشيء بحواسها. و لذلك كان يجتهد الأنبياء و الرسل و الدعاة بتقريب المجرّدات بالوسائل اللغوية أو الوسائل الأيقونية أو الجمع بينهما و بهذا المعنى يهدف الأيقوني إلى كشف الخفي و ايضاحه، سواء كان الأيقون رسما أو نحتا أم لغة أم جمعا بين اللغة و التشكيل و يقوم بوظيفة الإدماج بين العالم المقدس و الإيمان. و ما دام الأيقوني مرتبطا بالمقدّس، و مادام يسعى إلى الكشف و الإبراز ، فإنّ الكشف و الإبراز لا بد أن يكون على أكمل وجه و أوفاه حتى يحصل التمام و الكمال و يترسّخ القدسي و تتجسّد الفضائل. في ضوء هذا المنظور يصبح عنصر المماثلة أو المشابهة أحد المكوّنات الجوهرية للأيقون. و إذا لم تتوفّر هذا العنصر فإنّ الأيقوني ليس أيقونيا. و كلما ازدادت المماثلة و اقتربت من المحاكى تكون مقبولة و مرغوبا فيها مثل تلك الأيقونات الممثّلة لبعض الشخصيات التاريخيّة. وكانت تُجسّد الأيقونات عن طريق الفنون مثل فن النحت والرّسم والخزف… لتنتقل إلى عالم الفنون الحديثة والمعاصرة وتتحوّل وجهتها الوظيفيّة لتصبح طريقة ووسيلة للتعبير عن موقف ما إزاء حدث أو شخصيّة مشهورة. فكيف انتقل الأيقوني من الماضي إلى الحاضر في الفن ؟
يتبيّن مما سبق أنّ علاقة الأيقون بما يحاكيه علاقة متدرّجة فقد تكون علاقة مطابقة أو علاقة مماثلة أو علاقة مشابهة أو علاقة سببية، وأنّ وظائف الأيقون في القديم كانت هي الكشف و الايضاح لما استتر وخفي. و ربما هذا ما يفسّر ارتباطه بالمقدّس و قيامه على فكرة المطابقة. و لكن بمجرّد أن تخلّص الأيقون من رداءه المقدّس اعتراه التدرّج فأصبح استعارة أو كناية . على أنه مهما اختلفت درجاته فإنّ له وظائف معيّنة قد تختلف لا بسبب التدرّج و لكن باختلاف الأزمنة و الأمكنة و المؤولين. لكن السؤال الذي يبقى قائما كيف يمكن لعمل فني أن يرتفع إلى مرتبة الأيقوني؟
المثير للاهتمام هو ذلك الاتّفاق الجماعي، لرفع عمل ما إلى مرتبة الأيقونة. ونادراً ما يوجد شيء تجمع عليه أذواق البشر كالأيقونات. ولا بدّ من أن يكون هناك تميّز فنّي في اللّوحة، الّتي تتحوّل إلى أيقونة. ولكن وفوق ذلك، يجب أن تتوافر أسباب أخرى منها ارتباطها بظروف معينة كالسّرقة أو نشوب فضيحة تتعلّق بالعمل أو بمبدعه، أو أي حدث آخر لافت للنّظر ويعلّق بالأذهان ويرسخ في الذّاكرة. ويتطلّب الحفاظ على قيمة الأيقونة ومكانتها ، قبل كلّ شيء، أن تبقى راسخةً في الذّاكرة الجماعيّة البصريّة وهذا تقوم به الوسائل التّوثيقية. ومن المؤكّد أنّ هناك قاعدة خاصّة بأيقونات تاريخ الفنّ، إذ لا يمكن التّخطيط لها مسبقا، فذلك ليس بيد الفنّان، بل نسبة الرّواج هي من تقرّر ذلك. وهناك شرط آخر يجب توافره كي تتحوّل لوحة ما إلى أيقونة، إذ يجب أن يكون لها مغزى يتجاوز العمل الفنّي نفسه ولا يرتبط بزمن محدّد. هناك عناصر مشتركة بين الأعمال الفنّية السّابقة أسهمت في جعلها أيقونة. فهي جميعها أصيلة، وبها شيء جديد غير مسبوق وربما جريء، ويمكن التّعرف إليها بسهولة. أصبحت هذه اللّوحات محور اهتمام الفنّانين المعاصرين، فمنهم من يشتغل مباشرة على لوحة أيقونة مثل “مارسيل ديشمب” الّذي أضاف شوارب للمرأة في لوحة “الموناليزا”. و هناك من يأخذ شخصيّة أيقونة في حقبة ما ويشترط أن يضمّن حضوره بينهما، أي الفنّان والشّخصية فترة زمنيّة لا بأس بها، حتّى يمكن الجزم بأنّها أصبحت أيقونة. مثل الفنّان “أندي وارهول” (Andy Warhol) الّذي استعاد صور الشّريط المصوّر للأيقونة الممثلة والمغنية المشهورة الأمريكية “مارلين مونرو” وعدل في حجم الصّور وقدّمها بأسلوب تشكيلي جديد غنيّ بالألوان، وكذلك “أم كلثوم” أيقونة الغناء في الفن العربي.
أما أشهر الأعمال الفنيّة المرتبطة بأيقونة متعارف عليها، فهي لوحة “الموناليزا” (1503)، التي استنسخت وأعيد رسمها ربّما مئات آلاف المرّات. واستوحى آلاف الرسامين من شتّى أنحاء العالم أعمالاً لهم منها. قضى “ليوناردو دافنشي” (Léonard de Vinci) سنوات في رسم المرأة الشّابة، التي تظل هويّتها لغزاً محيّراً بابتسامتها ونظرتها. والأمر مختلف في لوحة “عذراء كنيسة سيكستين” (1514) للفنان الإيطالي “رافائيل”. الجزء الّذي يصور الملائكة في أسفل اللّوحة فقط هو من حقّق شهرة عالمية فأعيد استخدامه في عدد لا يحصى من الرّسومات الأخرى والإعلانات المختلفة.
Sandro Botticelli, la naissance de vénus , vers 1484-1485
رسم المصور الهولندي “جوهانس فيرمير” « Johannes Vermeer » لوحة “الفتاة ذات القرط اللؤلؤي” سنة 1665، لكنّ تحوّلها إلى أيقونة جاء متأخراً عندما حوّلتها الكاتبة الأميركيّة “تريسي شيفالييه” سنة 1999 إلى بطلة رواية تحمل العنوان نفسه. ولقيت الرّواية رواجاً كبيراً على عكس اللّوحة آنذاك. سنة 2003 تمّ تصوير الرّواية في فيلم سينمائي بطولة “سكارليت جوهانسون” وبالتّالي شاهدها الملايين في العالم. لولا هذه الممثلة الرّائعة لما تحوّلت اللّوحة إلى أيقونة. إذ شاءت الصّدف أن يكون هذا الفيلم وفيلم «ضائع في التّرجمة» سبب نجاح الممثلة، فانعكس وهجها على صاحبة القرط اللؤلؤي بعد مضيّ ثلاثة قرون على رسمها. منذ ذلك الحين، لا يتوقّف سيل الزّوار الّذين يقبلون على مشاهدتها في متحف موريتشيوس بالعاصمة الهولنديّة. وكما هو الحال في “الموناليزا”، تخفي لوحة هذه المرأة سرّاً ما أيضا. تصوّر اللّوحة وجه فتاة ترتدي ما يشبه الطّربوش يبدو كصورة شخصيّة، إلاّ أنّها ليست صورة لشخص حقيقي. وهي لا تشبه لوحات وجوه تلك الحقبة، التي تتسم بتجهمها، فهي تنظر إلى المشاهد مباشرةً واضعةً على شفتيها ما يشبه ابتسامة. تنحدر اللوحتان: الموناليزا والفتاة ذات القرط اللؤلؤي من حقبتين زمنيتين مختلفتين، لكنّهما تشتركان في الغموض الّذي يثير التّكهنات لتصبحا أيقونات الفنّ.
Johannes Vermeer, Jeune fille à la perle vers 1660-1665, Huile Sur Toile, 46.5 x40 cm (Comment regarder un tableau)
يعرض المتحف الوطني في “أوسلو” لوحة “الصّرخة” للرّسام النّرويجي” إدوارد مونش” (Edward Munch)، وقد اشتهرت هذه اللوحة بفضل حدث شغل الرأي العام، فقد عرضت للمرّة الأولى عام 1893 مباشرة بعد الانتهاء من رسمها، فغضب المشاهدون واعتبروها فضيحةً ومجرّد تلطيخ ألوان. بعدها أصبح تأثيرها أقوى لأنّها تتعلّق بجانب أساسي في حياتنا وتختزله بقوّة. ونحن لا نرى بوضوح إن كانت تصوّر رجلاً أو امرأة، عجوزا أم شابّاً. إنّها مجرّد كائن بشري يصرخ. هذا النّداء موضوع قابل للتّطبيق في مجالات أخرى. لقد اتخذ المصور البريطاني “جيرالد سكاف” من هذا النّداء نموذجاً في ملصق للفيلم الموسيقي “الجدار” لفرقة “بن فلويد”. وينطبق الأمر نفسه على فيلم الرّعب الأميركي، الّذي يحمل اسم صرخة، إذ يرتدي القاتل قناعاً مستوحى من اللّوحة. وهذا يبرزه أيضاً أحد مشاريع حماية البيئة بعنوان صرخة الطّبيعة للفنّانة النّرويجيّة “ليزا فولف” تدعو فيه كلّ النّاس إلى إطلاق صرخاتهم وتصويرها ثمّ نشرها على الإنترنت. لقد فضّلت “ليزا فولف” إعداد لوحتها من مواد مجمّعة من القمامة. وبدأ اهتمامها بلوحة الصّرخة انطلاقاً من اهتمامها بمشكلات تلوّث البيئة، وخصوصاً بعد الاطلاع على نصّ كتبه “إدوارد مونش” يتحدّث فيه عن شعوره بصرخة مدوّية صدرت من الطّبيعة. يشدّ الشّخص المرسوم اهتمام المشاهد من الوهلة الأولى، ويزداد الاهتمام بفعل الخلفيّة المائلة. وفي الواقع، إنّها ليست لوحة جميلة، لكنّها لوحة تشدّنا إليها وتغمرنا بقوة فتجبرنا على التّفاعل معها بكلّ عفويّة، كما لو كان ذلك الشّخص فيها يعنينا ويصرخ في وجهنا. ويشبه الوجه الصّارخ إلى حدّ ما قناعاً، وهذا ما يجعله مناسباً جدّاً لكي يكون أيقونة. ونظراً إلى شهرة اللّوحة، استلهمها كثيرون في أعمالهم. وقد تناول “إدوارد مونش” موضوع الصّرخة في أربع نسخ مختلفة.
Edward Munch, Le Cri 1893, huile détrempe et pastel sur carton, 83.5 x66 cm
الأيقوني استحضار للغائب
إنّ مسألة استحضار الغائب بصوته وصورته من خلال فعل واع و ممنهج كطريقة لاستكناه المفاهيم والتقنيات المعاصرة في العمليّة الإبداعيّة. و بما أنّنا نعيش في زمن التكنولوجيا الحديثة، أصبح فنّ الفيديو وسيلة بثّ منتشرة في العالم عامّة وفي الفنون خاصّة، فتركيبة الصور المتتالية والمؤثّرات الصوتية والموسيقيّة تنصهر مع أصابع الفنان حتّى تعطينا مفهوما توثيقيّا للواقع برمزيّاته ودلالاته فتأخذ منحى تسجيلي حديث مع فنّ الفيديو الذي غيّر الخطابات الفنيّة باستغلال عنصر الصوت حتى يتميّز عن اللوحة باستغلال عنصر الصوت حتى يتميّز عن اللوحة الفنيّة التشكيلية، إذ أنّ العمل الفنّي المعروض عبر شاشة يؤثّر في المتلقّي من خلال الصورة المقدمّة بمختلف مراحلها وبتركيبتها التعبيريّة. ومن خلال الصوت المرافق للصّورة. إذ أنّ الموسيقى بمختلف أنواعها تؤثّر على الجانب النفسي والسيكولوجي الداخلي للمتلقّي، ولعلّ في ذلك شكلا فنيّا بديلا قدّمته الحداثة على طبق من ذهب حتى يسهل سرد الواقع عن طريق الصورة المرئيّة في قالب فيديو فنّي.
يعتمِدُ جوهر الفنّ المعاصر – القائم على الحواس البصرية والسمعيّة وغيرها مجتمعة – على الإدراك الحسّي للعالم، إذ ما يفرّق بين الفنّ و اللاّفنّ هو إثارة الإحساس، فالفنّ يحتاج إلى مجالات إدراك واضحة، كما يقول “مارلوبونتي”: “إنّ من طبيعة الجسم أن يكون مُدرِكا ومُدرَكًا في الوقت ذاته، فهو ذاتٌ بواسطة الاختلاط والنرجسيّة وملازمة الرّائي لما يراه واللاّمس لما يلمسه والسّامع لما يسمعه” .وهذا التكامل بين الحاس والمحسوس يقوم على أساس “الإدراك الذي يتمّ بواسطة جسمي وفي جسمي” ، إذ أنّ الجسم هو الذي يُدرك الأشياء، ولكنّ الإدراك وحده لا يحيلنا إلى ماضي الأشياء أو الأشخاص، إذ لا بدّ من إدراج الذاكرة الّتي تحيلنا بدورها إلى استحضار الأيقوني، فكان لزاما عليّ أن أتطرّق في هذا المحور إلى دلالات ومعاني الأيقوني في الفن المعاصر بين الماضي والحاضر في مرحلة أولى، ثمّ دراسة تجارب فنيّة تخُصّ الصورة والصّوت في تطوّر معاصر، وهو ما سيحيلنا إلى الذاكرة وتجليّاتها في الفن المعاصر وتأثيرها على الفنّان بدرجة أولى وعلى العمل الفنّي بدرجة ثانية، والأهمّ من ذلك : كيف تُفعّل الذاكرة الحواس ومجالات الإدراك عبر الصّوت والصورة في الفن المعاصر ضمن الخوض في بعض التجارب المعاصرة لمجموعة من الفنانين؟
انطلاقا من هذا السّياق المتجدد، يجد الفنان المعاصر نفسه مدفوعا إلى طرح مقاربة تشكيليّة جديدة نوعا ما في التّعامل مع مسألة الذّاكرة و يختار تقديمها في صورة جديدة بالاعتماد على أسلوب تشكيلي مختلف. ويؤسّس هذا التّمشي لطرح الحوار بين الفعل الفنّي وذاكرة المتلقي حتّى يحمله من مستوى الانسجام إلى حدود الخيال والألفة، معتمدين في ذلك طُرقا وأساليب متطورة تقوم على برمجيّات الفوتوشوب (Photoshop) و الأدوب (Adobe première) والجمع بين الرسم (Peinture) والموسيقى، إذ يمكن لهذه الأخيرة أن تفسح لنا المجال للخوض في تجربة تشكيلية جديدة والبحث عن أسلوب تجريبي مغاير في التّعامل مع الذّاكرة، لتحقيق مقاربة تتقاطع فيها أهمّ المعطيات الفكريّة والتقنية لإخراج أثر فنّي يستقطب الاهتمام. و من المؤكّد ومهما اختلفت الآراء من الصورة الضوئية فهي لم تتوقّف منذ ولادتها إلى التطوّر والقيام بإضافات جديدة وهي اضافات سمحت بظهور ما يسمى ” الفيديو آرت “. وفن الفيديو أو (الفيديو آرت) واحد من أحدث الفنون البصريّة سليلة الصورة الضوئيّة، وهو فن طامح للتعبير عن هواجس الإنسان المعاصر وتطلعاته، بلغته الخاصة مستعينا بما يتوفّر في عالم الاتصالات و(الميديا) من التقنيات الحديثة للسينما والتلفاز والحاسوب ومراحل ولادة الصورة الضوئية الثابتة والمتحركة، كالتقطيع، والمونتاج، والإخراج، وكل ما هو متصـــل بالفيديو، إضافـــة إلى استفادته من الفنون التعبيريّـــة التقليديـــــّة كالفنون التشكيليّة والموسيقى.
أم كلثوم الصورة الأصل / الصورة الانزياح.
لقد كانت لنا تجربة خاصة في توظيف آلية الانزياح أفردناها بعنوان ” استحضار الغائب: الصوت- الصورة ” و اخترنا أيقونة من أيقونات فن الغناء العربي التي صورتها محفورة في ذاكرة المجتمعات العربية على مر أجيال. إذ للذاكرة أهمية خاصة في فنون الموسيقى، فهي تجمع بين الجانبين المعرفي والعملي. وقد بينت الدراسات كيف ” أن للذاكرة مكانة خاصة في المجال السمعي، وعندما تبتعد اللغة الموسيقية عن ذاكرتنا يسود الغموض في تعاملنا مع عالم الأصوات والإيقاعات ومن ثمة يصبح الإنتاج الفني مغايرا تماما لما يجب أن يكون عليه” .
يعود كل منجز أو تجربة إلى أصلها، سواء كانت عادية، فكريّة أو حسيّة. والأصل هو “أسفل كل شيء وجمعه أصول، ويقال أصل مؤصّل وأصل الشيء: صار ذا أصل . وانطلاقا من هذا التعريف الاصطلاحي نتبيّن مدى أهميّة الأصل والعودة إلى أصول الأشياء إذ لا بدّ من ذكر الفيديو “الأصل” في تقرير تجربتنا لنعود إليه كمرجع أولي. و يتضمن المقطع الأصلي لفيديو “أم كلثوم” أولا صوت الفنانة وهو من أهم الأصوات التي يمكن أن ترسخ في ذاكرتنا وصوت الآلات الموسيقية التي تتميز بإيقاع موسيقى مميز يعتمد على الحدة واللين والتكرار. ثم تأتي الصورة فنجد: صورة ثابتة وهي العازفون والآلات الموسيقية وهي ثابتة نسبيا وصورة متحركة وهي صورة الفنانة التي تنفرد بأسلوبها المميز في الإلقاء وحركة يديها.
مقتطفات من الفيديو الأصلي
لا شكّ أن ذاكرتنا الموسيقيّة تعاني من اختراق بعد أن “وقع تركيب عناصر مسقطة على التراث الموسيقي العربي ممّا أدّى بالمنجز الموسيقي إلى الزّيغ عن أصوله” . فأصبحنا نعيش خللا في سلامة ذاكرتنا وإحساسنا. كما أنّنا نعيش نوعا من الاغتراب حيث نعقدّ الأمر فصرنا نجد صعوبة في التمييز بين الأصيل والدّخيل. ما خوّل لنا في التجربة الأولى التدخّل على الصوت، وترك المجال للذاكرة حتى تتعرّف على صوت الفنانة والأغنية المختارة في الفيديو، مستعملة التكنولوجية الرّقميّة كتقنية تتعايش مع الفنون الحالية.
فهل تسترجع الذاكرة الصوت؟ هو السؤال الذي خالجنا ودفعنا في التجربة الأولى، إذ يعتبر النسيان مكوّن من مكوّنات الذّاكرة لأنّه يؤدي إلى عمليّة الفرز، ومن خلال هذا الفرز يقع الاحتفاظ بأشياء واسقاط أشياء أخرى، فبعض من الماضي ذهب وولّى زمانه في طيّ النسيان، وانقضى مع فقدان الذّاكرة. لكن هذا الماضي يمكن أن يستعاد بشكل لا إرادي عن طريق شعر نسمعه أو موسيقى.
حذفنا في مرحلة أولى مقاطع من الصوت وتدخلنا عليه بتقنية التسريع في نسق التمشي والقلب في بعض الأجزاء، مما ولد اضطرابا على مستوى إدراك الصوت بشكل بديهي ليحيلنا إلى تنشيط الذاكرة عبر بذل مجهود يتغير من متلقي إلى آخر حتى يتعرف على الفنان في مرحلة أولى ثم على الأغنية في مرحلة موالية وهي الأصعب. إذ من الوهلة الأولى يمكن التعرف على “أم كلثوم” ولكن الأغنية هي التي تستوجب التدقيق أكثر.
في مرحلة ثانية أضفنا مقاطع صوتية تتكون من صوت ضجيج وتشويش مستعملين تقنية الأدوب. زادت هذه الإضافة من صعوبة إدراك ما نسمعه وانزياح الصوت مما يزعزع ثوابته وذاكرة المستمع. وهنا إحالة لما نعيشه في واقعنا اليومي من التحام مع أصوات السيارات وضجيج الشارع. فأخذنا من نبض الحياة اليومية تلك الضوضاء وأقحمناها في التجربة الأولى.
إنّ المتقبّل يعيش تجربة الصوت الذي ينطلق من المعيشي اليومي ويتلاحم مع مقطع فني مولّدا مولودا “مختلفا عن العادة ومثيرا للدهشة” وهذا المولود ” الغريب هو من اللامألوف وغير العادي والغرائبي. كما أنه بالإمكان إدراج أصنافه المتعددة بمرجع من الواقع المادي ومن عالم التجربة اليومية” فيصبح للامعنى معنى، عبر توظيف التكنولوجيا الرّقميّة في تحفيز الذّاكرة بإضافة التشويش، وكأنّ الوقوف على الضجيج المضاف يحيلنا إلى أصوات الطرقات ودويّ الشارع، فتسرح بنا ذاكرتنا إلى ما هو أبعد من الفيديو الأصلي لأم كلثوم، لتجوب الشوارع وتدغدغ حواسنا عبر فكرة استنساخ اليومي في العالم التكنولوجي، لتعود الذاكرة في وقت لاحق إلى فرز صوت “أم كلثوم” والتعرّف على مقطع الأغنية وهنا تشمل عمليّة التذّكر المتلقي أساسا، في محاولة منا الوصول إلى الخداع السمعي من جهة واستدراج السّامع من جهة أخرى إلى تفعيل الذّاكرة وهو ما يتغيّر من متلقيّ إلى آخر.
يمكن اعتبار هذا المزج بين صور حقيقية من الفيديو مع صور أو مقاطع أو تقنيات مبرمجة بالأدوب(Adobe Première) بمثابة تحدي، تحدّي تشكيلي في التعامل مع الفضاء الثلاثي الأبعاد إزاء التسطيح الذي تؤمنه الصورة من جهة وإزاء الآليات التي تؤمن هذا الانزياح عن الشكل الأصلي من جهة أخرى. ومن الفنانين الذين إعتمدوا مفهوم الإنزياح في أعمالهم الفنان ” ويجي (Weegee) ” الذي تدخل على وجه القائد الروسي “نيكيتا خروتشاف” (Nikita Khrouchtchev) بطريقة ساخرة.
Weegee, Nikita Khrouchtchev ; 22,7 x 19 cm, ML/F 1977/845
(la photographie du20ème siècle p 722)
راهنا في تجربتنا الثانية على تمييز الفنانة الأيقونة “أم كلثوم” رغم التدخل على صورتها بإضافة عناصر تقنية تضيّع الصورة وجعل ما هو مرئي غير مرئي على عكس مقولة “مونتا لقاسي” (Mentalgassi “)Making the invisible ” visible” فتبيّن لنا كيفيّة استغلال حيثيات المرئي في فيديو أم كلثوم وطرق طمسه حتى ينزاح عن شكله الأصلي ويكون فعلا تشكيليّا.
التجربة الأولى: مقاطع من الفيديو الأول :برمجة الأدوب (Adobe Première)
تميز التدخل على الفيديو بطابع تاريخي يحيلنا إلى الزمن الجميل، خاصة على مستوى إضافة مؤثرات عهدناها في الشاشة التلفزية قديما عندما كانت نوعية الصورة بسيطة لا ترتقي إلى المستوى الموجود حاليّا. فكأنّنا عدنا بها إلى الوراء خاصّة مع قتامة الصورة وتكرارها بشكل عشوائي من جهة وممنهج من جهة أخرى، ليصبح “الفراغ والعلاقة المساحيّة هي المادة الأساسيّة لبناء العمل”
التجربة الأولى: مقاطع من الفيديو الأول.
برمجة الأدوب (Adobe Première) والفوتوشوب
إن تكرار الصوت والصورة بشكل مستفيض يحيلنا نحو مسألة تشابه الصورة المقدمة مع الصورة التي في ذاكرتنا، هو انزياح بالصورة يزعزع ثوابت الصورة في ذاكرتنا كما هو الحال للصوت ورفض لرؤية الصورة في شكلها الأيقوني المتعارف عليه، وهو انزياح الشيء عن شيئيته المعهودة وتشكيل غرائبي لذاكرة تلك الصورة لدينا. فكما قال أندي وارول: ” النظر إلى شيء مطوّلا، لا يفقده معانيه” . بل يضيف له معاني جديدة ويكسبه قيمة بديلة.
ويؤدي الزمن دوارا مهما في تكوين السرد المرئي ، فهو يكسبه الحيوية، والتدفق، والاستمرارية، ولذا لا يتحقق وجوده تكامله التقني إلا في إطاره ، وهو تقنية مهمة تعمل على ربط العمل الفني بالحياة ، وتمنحه عناصر التشويق، والإيقاع و الديمومة و تحدّد طبيعته و طريقة صياغته. فوجود الزمن ليس إلاّ وجودا وظيفيا يتدخّل كعنصر نظام . إنّ الزمن السردي ليس إلاّ زمنا دلاليا أمّا الزمن الحقيقي فهو وهم واقعي كما يؤكّد ذلك رولان بارت : ” الزمن الروائي هو التوصّل إلى وصف بنيوي للإيهام الزمني ” . ونقف في تجربتنا على تعدّد الأزمنة التي تتداخل في المقطع الواحد ( فن تشكيلي من عصر النهضة، فن كلاسيكي، راب، مألوف ….) باختلاف دلالاتها ، كما نقف على زمن تخيّلي للأحداث، و زمن القراءة البصرية للعلاقات و التحولات أو الانتقالات بين مفردات المكونة للعمل.
انطلاقا مما سبق ننتهي إلى أنّ الفنون البصرية هي رسالة مرئيّة تحمل دلالة معرفيّة متّصلة مباشرة بالمتلقّي الذي يستقبلها على شكل علامة معروفة مثل الأيقونة أو إشارة رمزيّة، والفكرة هنا أو الدلالة هي مضمون العمل الفنّي ويمكن تسميتها بالرّسالة البصريّة التشكيليّة، ولهذا فإنّ الألوان والأشكال والخطوط والملامس والظلال أيضا تتسرّب إلى الصورة مُحمّلة بدلالتها الفكريّة والذهنيّة السابقة والتي تكون مترسّخة في الذاكرة، مثل الأحمر الموجود في العديد من الأعمال الفنيّة باعتبار دلالاته السّابقة والمعروفة كلون الدمّ، رمز للحريّة والكرامة، وليس باعتباره لون موجود ضمن الألوان الأخرى، كذلك الأمر مع الأخضر والأزرق وغيرها من الألوان. وما يصدق على اللّون يصدق على الشكل العضوي بأنواعه والهندسي أيضا، إذ لهذه الأشكال دلالات أخرى غير التشكيل الهندسي وهي دلالات تعني البعد الأيقوني. ويتدخّل هنا الانزياح بوظيفته الرئيسية هي ” المفاجأة ” والتي هي في حقيقة الأمر مرتبطة بالمتلقي الذي يدخل دائرة الإبداع دون استئذان، بعد أن لم يكن له في العصور السابقة أي اعتبار. أما اليوم فهو من يوجه له الفنان العمل الفني، واضعا المتلقي كشريك إلى جانبه، وبالتالي إنّ وظيفة الانزياح في الفن هي خدمة النص البصري ومتلقيه، إذ يُعدّ محور تجربة الفنان في تشكيل المعنى و توضيح دلالته كما إن النص لا يكتمل إلا بالمتلقي: ” في مجال الفن و في القرن العشرين فقد اشتمل على عوالم الإنسان الداخلية و الخارجية معا، بهدف إحداث تغيرات في طبيعة الذوق العام لكونه نتاجا تراكميا (خبريا معرفيا)، خصوصا بعد ظهور الاتجاه الانطباعي ، في ميدان الفن و الأدب و ما تلاه من حركات” .
و وفق هذه الرؤية تجذّر مفهوم الانزياح ليغدو مغامرة تجوب الفضاء التشكيلي و ما يحتويه من مفارقات فيصبح الدال مدلولا و المدلول دالا و المستحيل ممكنا فتبوح الأثر بأسراره ويقول ما لا يقوله الواقع. فوظيفة الانزياح بهذا الاعتبار: ” لا تتوقف عن خلق توتّر بين الدال و المدلول و لكنها تجعلنا نرى الأشياء و العلاقات بطريقة مغايرة و من زاوية متباينة” .
البيبلوغرافيا
المراجع و المصادر :
– بالعربية :
• ابن المنظور، لسان العرب 1 من أ إلى ج، دار المعارف للنشر – 1119، كورنيش النيل – القاهرة ج. م. ع، 1955.
• أبو العدوس (يوسف)، الأسلوبية الرؤية والتطبيق، دار المسيرة، الأردن، ط1، 2007،
• بن عزّة أحمد و د. خالدي محمّد، الانزياح في اللوحة التشكيلية الجزائرية بين الحرية و الالتزام، مجلّة البدر، المجلد 10، العدد 09، 2018، ص. 1013- 1027.
• بوطارن (محمد الهادي ) وآخرون، المصطلحات اللسانية والبلاغية والأسلوبية والشعرية انطلاقا من التراث العربي، ومن الدراسات الحديثة، دار الكتاب الحديث، ط1، القاهرة، 2008، ص. 156.
• حمادي عبد الله، سلطة النص في ديوان البرزخ و السكين “دراسة نقدية “، اتحاد الكتاب الجزائريين ط 1 ، 2000
• حمزة محمد الطائي دلال ، الانزياح و تمثلاته في الرسم الأوروبي الحديث ط 1، الدار المنهجية عمان، 2016.
• د. عبّاس رشيد الددة، الانزياح في الخطاب النقدي و البلاغي عند العرب، دار الشؤون الثقافية، العراق، بغداد، ط. 1، 2009، ص 13.
• صمّود حمّادي ، التفكير البلاغي عند العرب أسسه و تطوّره إلى القرن السادس، منشورات الجامعة التونسية ، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، 1981.
• قطاط محمود ، مجلة الفنون،الفن و الذاكرة،اصدار دار الثقافة،تونس،الثلاثية الثانية 2014.
• كوهن (جون)، بنية اللغة الشعرية، تحليل محمد الولي العمري، دار توبقال، ط1، المغرب، 1986
• لوسي سميث ادوارد ، الحركات الفنيّة منذ عام 1945، ترجمة أشرف رفيق عفيفي، مركز الشارقة للإبداع الفكري، بدون تاريخ.
• المسدي عبد السلام ، الأسلوبية و الأسلوب، الدار العربية للكتاب، 1984
• ميرلوبونتي (موريس)، العين والعقل (L’œil et l’Esprit)، تقديم وترجمة حبيب الشاروني، الناشر منشأة المعارف بالاسكندريّة، 1962،
• هويغ رينه ، الفن تأويله وسبيله ج2: ترجمة صلاح مصطفى، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق 1978.
• وغليسي يوسف ، مصطلح الانزياح بين ثابت اللغة المعيارية الغربية ومتغيرات الكلام الأسلوبي العربي، مجلة علامات ، العدد 64، مج 16 ، ص189.
• ويس (أحمد محمد )، الانزياح من منظور الدّراسات الأسلوبية، المؤسّسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، ط 1، بيروت، لبنان، 2005،
– بالفرنسية:
• Andy Warhole ; 501 ARTISTES peintres.
• Barbe-Gall (Françoise); comment regarder un tableau, Editions du chene-hachette-livre, Espagne, 2008.
• Barthes Roland, Le plaisir du texte, Paris, Éditions du Seuil, 1973.
• Catalogue :
• Cohen Jean, Structure du langage poétique, Flammarion, Collection Champs, 2009.
• Dictionnaire encyclopédique, Larousse, Paris, 1999.
• Dictionnaire :
• Foucault Michel, Les mots et les choses, Éditions Gallimard, 1966.
• Souriau Etienne , Vocabulaire d’esthétique, Quadrige, Paris, 1999
• Spitzer Leo, Études de style, traduit de l’anglais et de l’allemand par Éliane Kaufholz, Alain Coulon et Michel Foucault, Paris, Gallimard, 1970